جامعة الأمة العربيَّة والمقاومة القانونيَّة

 

 

علي المعشني

أُشهرت في بيروت، الأسبوع الجاري، جامعة الأمة العربية والمقاومة القانونية، بحضور قامات عربية معروفة من رموز النضال العربي وساسة ومفكرين وإعلاميين ورجال قانون، وفدوا من ثلاثين دولة عربية ومن بلاد المهجر.

هذا الحدث والخبر يعني بالدرجة الأولى من تبقى من العرب العاربة بيننا والذين يقتاتهم الحزن كل يوم على حال الأمة العربية والعروبة ومشتقاتها المادية والمعنوية، وبلاشك لايعني العرب المتأمركة ولا العرب المتصهينة ولا عرب الاسترخاء والتطبيع والذين يطمح أكثرهم عروبة في ولوج المستقبل وتحقيق التضامن العربي وفق البورد الأمريكي وبأدوات الهزيمة والإخفاق.

أنْ يقام هكذا حدث، وفي مفصل تاريخي حاد وفيصل في تاريخ الأمة العربية، وعلى تراب لبنان الصغير الكبير، فيه من الرسائل والمغازي ما لا يفقهه سوى القراء بين السطور لحراك الشعوب ومسار التاريخ ومآل صناعة المستقبل وتقرير المصير.

من لبنان تعلَّمنا النضال وحركات التحرر وثقافة الكرامة وأدبيات السياسة والتعايش والاختلاف والتنوع والثراء؛ لهذا يضع الغرب وأعوانه لبنان دائمًا ضمن دائرة الاستهداف والخطر الإستراتيجي على مُخططاته ومشروعاته في المنطقة وبصمت مُطبق، فيشعله بحروب أهلية بين حين وآخر ويشغل مراهقيه بمهام صراعات وحروب جانبية لا تليق بلبنان ورسالته ووزنه الحضاري رغم ضحالته الظاهرية حتى يبقى لبنان في دائرة الاستقرار القلق على الدوام.

لا شكَّ عندي أنَّ هذه الكوكبة التي قرَّرت إشهار جامعة الأمة العربية والمقاومة القانونية وجعل قضية فلسطين في قلبيهما، هي كوكبة واعية بما يكفي لقراءة التاريخ ومسار الأحداث والمفاصل الحادة في التاريخ والتي تحتاج إلى مواقف وازنة تعيد للأمة قوامها وللأمور نصابها، ولاشك عندي قبل ذلك أنها نُخب من صنف المفكرين الاجتماعيين في الغرب والذين يتكاملون عضويًّا مع مجتمعاتهم ويتلمسون حاجاتها ومعاناتها وتطلعاتها فتذوب أفكارهم وأحاديتهم في الكل في لحظات فاصلة، فينتجون مواقف وأفكار مضيئة تهدي الأجيال والأوطان وترشدهم للجادة والصواب وترقى بهم.

فإشهار الجامعة اليوم والمقاومة القانونية لم يأتيا كزرع في صحراء قاحلة، ولا كزراعة بلا تربة، ولا كعربة تسبق الحصان وتعيقه، بل أتى كمشروع قومي في زمن تآكلت فيه جامعة العرب وأكلت معها كل مقدرات العرب وآمالهم، وما تبقى من تضامنهم وقدمتهم كقرابين سهلة الهضم لأعدائهم تزامنًا مع صمت مطبق من النظام الرسمي العربي يصل إلى حد تفسيره بالمباركة لكل تلك الاستفزازات والفضاعات من جامعة تُسمَّى عربية، ومهمتها مصالح العرب وتعمل بالنقيض.

إشهار جامعة الأمة العربية اليوم، ومن طيف شعبي حر وواع بمسؤولياته ومهامه تجاه أمته وثوابته، طيف يقدم مواطنته العربية على وطنيته القُطرية، جاء كلبنة في بناء تراكمي شعبي قائم ومواز للدولة ليسد عجزها وفراغ ضعفها عن تقرير مصائر الشعوب بالسياسة أو النضال على اعتبار أنَّ الحق لا يُهدى بل يُنتزع.

كان الرِّهان من الداخل والخارج، على أننا شعوب نائمة وقاصرة، وأن النُظم الرسمية تقوم مقامها في كل شيء، حتى أتت فصائل المقاومة تباعًا وتغولت في ظل الدولة لتوجه بنادقها للمغتصب وتُعفي الدولة من المساءلة أو التقصير كون دولة الإستقلال العربي محاطة بالشتات وأعراض الوهن ومكبلة بالتبعية إلى النخاع، وهذا ما أقرت به ووعته المقاومة، والتمست العذر للنظام الرسمي العربي، وقامت مقامه فيما عجز وأعجز عنه وهو النضال المسلح أو الجهر بالمواقف.

اليوم.. جميعنا يعلم أنَّ المقاومة لم تعد فصائل وأفرادا تحت الأقبية وفي الأحراش وجُنح الظلام، بل أصبحت جيوشا جرارة ومتعددة الأسلحة والمهام، وأصبحت دولا بكل معنى الكلمة؛ حيث تعزَّزت المقاومة المسلحة بالإعلام المقاوم فأصبحت اليوم أكثر من 20 قناة فضائية مقاومة بعد أن كانت قنار المنار فقط وحيدة في الساحة كقناة مقاومة وإعلام حربي تختطفها المؤامرات وأيادي الغدر لوأدها وأصبحت الأقمار البديلة للإرسال الفضائي تنتشر كل يوم وتضعف تدريجيًّا من هيمنة معسكر التطبيع وصراعه الحاد مع المقاومة وأدواتها.

قد يعجب البعض حين يعلم بأن بعض تلك القنوات ممولة بالكامل من قبل رجال أعمال عرب مؤمنين برسالتها النضالية المقاومة وبدون مقابل أو شرط، لهذا نراها بلا إعلانات تجارية، بل إن هناك قناة مقاومة عروبية قومية يمولها رجل أعمال عربي يهودي، والأمثلة كثيرة على المخاض الذي تعيشه الأمة بصمت وفاعلية، وسنرى في الغد القريب صناديق شعبية تدعم مجهود المقاومة في كل قُطر عربي.

عام 2008م، وبُعيد محرقة غزة، والسقوط الأخلاقي المريع للنظام السياسي العربي التطبيعي، تحدَّث وزير الخارجية القطري حينها الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني بجرأة واستبصار، ووصف ما حدث في غزة وقبله في لبنان والتفاعل الشعبي العربي الكبير معهما بأنه مؤشر لعصر جماهير وطوفان جارف يُنذر بجرف النُظم الرسمية التي لن تقرأ الواقع كما يجب وتفسر تلك الظواهر بمجرد فقاعات ومشاعر عابرة.

والحقيقة أنَّ استبصار حمد بن جاسم حينها كان قراءة حقيقية عقلية لما ستؤول إليه الإرادة الشعبية العربية لتصنع واقعها وتُعفي دولة الاستقلال العربي من تمثيلها وترجمة مطامحها وأحلامها في رؤية أمة عربية واحدة يتقاسم أبناؤها الآمال والآلام معًا.

الحراك الذي يجري بصمت اليوم في الوطن العربي هو حراك يفهمه المواطن العربي الغيور والمتفائل بأنه من الحركات الصغيرة غير المرئية في التاريخ والتي تتسبَّب في تغيير مجراه كما يقول الزعيم الصيني ماوتسي تونج. فحقيقة ما يجري في الوطن العربي اليوم هو انقلاب ناعم وهادئ على دولة الاستقلال العربي وثقافتها وإحلال دولة المواطنة العربية التي تليق بلغة العصر وتحقق للأمة مكانتها اللآئقة بين الأمم.

فلم يعُد خافيًا اليوم الصراع الواعي والعميق الذي يقوده تيار المقاومة العابر بثقافته للأجيال والحدود والهويات الفرعية من مذهبية وقُطرية وعرقية لينفذ وعد الله وعهده بأننا خير أمة أخرجت للناس، ويمتثل لأحكام التاريخ ودول الأيام بأن إرادات الشعوب في الحياة والرقي والحرية تجتاز الأقدار وتنتصر على جميع القوى والظروف المحيطة بها، وكما قال الشاعر العربي التونسي الكبير أبوالقاسم الشابي.

حين قال رئيس الدبلوماسية الروسية سيرجي لافروف ذات يوم في تعليقه على التحالف الروسي السوري: إنَّ روسيا لا تتحالف مع الضعفاء، اعتبرها تيار التطبيع نكتة لأنهم يعتقدون بأن جحافل إرهابهم وما خلَّفوه من دمار وقتل وتشريد وتهجير كفيل بالقضاء على إرادة الحياة والنصر المؤزر الذي قررته دمشق منذ مطلع الفجر الكاذب لثوارهم ومطلع الفجر الصادق لميلاد أمة عصية محصنة من قلب دمشق والتي تصنع مجدًا لا يراه الساعون على بطونهم وتُهديه بصمت لقراء التاريخ والساعين للمجد والروس منهم.

ما سُمِّي بالربيع العربي، ومن خطط له، كان استباقًا لربيع عربي زاهر بمنطق الأمور وتراكم النضال والقناعات، فليس عامي 2006 و2008م كغيرهما من الأعوام السابقة أو اللآحقة في أجندة الغرب وتيار التطبيع، حيث سقطت أوراق التوت عنهم أخلاقيًا وميدانيًا وإلى غير رجعة.

ربيعنا العربي كان ربيع تقويم وإصلاح ووداع مرحلة بثقافتها وشخوصها ورموزها بكل تقدير وإجلال بلا تخوين أو توزيع صكوك وطنية مع الحفاظ التام على الأوطان والمكتسبات والبناء عليها؛ لهذا باغتونا بربيعهم المشؤوم ليستبقوا إرادتنا فدمروا كل شيء الدولة ومكوناتها ومكتسباتها وهجروا مواطنيها وفجروا دور العبادة وسرقوا المقدرات والآثار أي الماضي والمستقبل واغتالوا الرموز الوطنية والإصلاحية، وكل هذا برعاية الأمم المتحدة والناتو وتحت أنظار من يسمون أنفسهم بالعالم الحر.

جهاد إسلامي ترعاه فرنسا وإنجلترا وثورات ترعاها الأمم المتحدة ضد كيانات سياسية مؤسسة لها، وإرهاب منظم تدعمه أمريكا بلد تمثال الحرية والعالم الجديد.. حصار عقل غير مسبوق، ودجل سياسي مواز لكل ما عرفته البشرية وأقرته الأعراف والقوانين الدولية.

ما يَهمُّنا اليوم هو أن الشعب العربي قرر الحياة والمواجهة على طريقته وبممكناته دون وصاية من أحد ولا بالنيابة عن أحد، ليبني واقعه ومستقبله تحت الشمس وفوق الأرض كغيره من الشعوب الحرة في العالم، والمؤشرات بين أيدينا وأمام أعيننا تقول بأن الأمور جميعها في صالحه وأن عقارب الزمن لن تعود للخلف أبدًا وعلى من يقرأ التاريخ ومسار الأيام أن يركب موجة الشعب العربي ويتصالح معها حتى لا يجد نفسه على هامش الأحداث والتأثير؛ فما كان يوصف بالأمس بالفقاعات كفصائل المقاومة، أصبح اليوم أصلب وأصدق من قرارات مجلس الأمن، والقادم أعظم.

---------------------

قبل اللقاء: "من يتابع رفض الرياضيين العرب مقابلة نظرائهم الصهاينة، أو حتى مصافحتهم في أولمبياد ريو 2016...وغيرها من المناسبات الرياضية، بينما يتهافت بعض المسؤولين العرب على تل أبيب، يتيقن بأن المبدأ سينتصر على المصلحة وذات يوم قريب".

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com