مدرسة جوليوس نيريري: تعليم يُحيي العقول والحقول

 

 

د. سَيْف المعمري

لا تزال نوعية التعليم مُؤثرة كثيراً في نوعية السياسية والاقتصاد والثقافة والصناعة التي تمتلكها المجتمعات، وهي أيضا مؤثرة في نوعية الموارد البشرية التي تحظى بها أي دولة؛ هل هي موارد بشرية يمكن أن تقود إلى نهضة حقيقة أما هي موارد بشرية ضعيفة تقود إلى إفشال أي مشروع نهضوي، والتجارب العالمية تثبت هذه العلاقة بين التعليم والتقدم، وبين التعليم والمواطنة، وبين التعليم والاستقرار، وبين التعليم والحداثة، وحين يزيد الاعتماد على الآخر في أي مجتمع؛ فالتعليم لا يعمل بشكل جيد، ولا يساعد على سد حاجات المجتمع، ويزداد هذا الشعور اليوم في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها دول المنطقة، التي كشفت هشاشة المجتمعات التي قادت إليها السياسات التعليمية المتعاقبة، لأن التعليم لم يقود إلا إلى مزيدا من الاعتماد على الآخر، وإلى بطالة الخريجين، وإلى وعي ضعيف تتلاعب به التيارات الإعلامية والدينية والسياسية في المنطقة، فهل هذا هو التعليم الذي سيخرج الأفراد الذين سينقذون مجتمعاتهم من كل هذا الضعف؟ هل هذا هو التعليم الذي سيقود إلى بناء أوطان قوية قادرة على الحفاظ على وجودها في ظل ما يتربص بها من تحديات في الداخل والخارج؟

طرح هذا الموضوع قبل أسبوعين من بدء العام الدراسي والجامعي في معظم دول المنطقة ضروري، حتى نتأمل إلى أين يقودنا التعليم بوضعه الحالي، ربما نوجد نافذة نستطيع من خلالها أن ننفذ إلى رؤى عملية يمكن من خلالها النهوض بالتعليم، ولأن الأفكار الجديدة في التعليم كانت ولا تزال مبنية على فلسفات قديمة كان بعضها في وقته مرفوض لاختلافات سببها الفلسفات السياسية؛ فليست كل الأفكار التقدمية في التعليم قادمة من الغرب، هناك أفكار أخرى ولدت في دول العالم الثالث؛ ومن ضمنها: أفكار "جوليوس نييري"، الذي يُعد أول حاكم لدولة تانزانيا التي تكونت من اتحاد بين تنجانيقا التي تخلصت من الاستعمار في عام 1961م، ودولة زنجبار التي تخلصت من الاستعمار في عام 1963، حيث قام نييري بتدبير انقلاب عسكري فيها في عام 1964م ضد حكومتها العربية العمانية، حيث ارتكبت فيها مذبحة راح ضحيتها عشرات الآلاف من العمانيين والمسلمين المقيمين، ورغم هذا الذاكرة التاريخية التي يمثلها هذا الرجل في أذهان العمانيين إلا أنني معني بفلسفته التعليمية التي كانت مختلفة عن بقية الفلسفات بحكم أنه كان مدرسا في أعقاب حصوله على الدكتوراه من جامعة أدنبرة الاسكوتلندية في عام 1952م، هذه الفلسفة التي لخصها في كتاب عرف بـ"التربية من أجل الاعتماد على الذات" "Education for self-reliance".

رفض "نييري" في هذه الوثيقة أن يكون الطالب سيِّداً والمعلمون وأولياء الأمور خدما له، يجلس على كرسي طوال اليوم في المدرسة، وخلال اثنى عشر عاماً مُعتمدا على الآخرين في كل شؤونه، لا ينتج أي شيء، ولا يقوم بأي عمل، يتفرج فقط على الآخرين الذين يعملون على رعايته، يؤدي الامتحانات الورقية التي لا تثبت أنه قد تعلم أية مهارات؛ وبالتالي هو في الواقع لا يقوم بأي عمل منتج يرفع من العوائد الاقتصادية لمجتمعه، أو يؤدي إلى تعزيز انتمائه لذلك المجتمع، وقد تزايد رفض نييري للتربية التي كانت قائمة في عهد الاستعمار التي ركزت على تعزيز الفردية والرأسمالية في مجتمع مختلف تماما عن المجتمع الإنجليزي، لأن هذا النمط يقود إلى زيادات التفاوت بين أفراد المجتمع؛ لذا ركز على تقديم تربية تستجيب لحاجات المجتمع الزراعي في تنزانيا، وتستجيب أيضا لحالة الفقر التي كانت تعيشها تنزانيا في ذلك الوقت، والتي تتطلب من جميع أفراد المجتمع أن يكونوا منتجين، بدلا من أن يستهلك النصف غير المنتج، إنتاج النصف المنتج بحجة أنه يتعلم، ولماذا لا يقرن التعلم بالإنتاج؟ لماذا لا يربى الأطفال منذ صغر سنهم على أن يكونوا منتجين ويساهموا في دخل أسرهم؟ هذه الأسئلة كانت تقود فلسفة نييري للتعليم في هذه الدولة، وهي نفس المبادئ التي ركزت عليها منظمة اليونسكو بعد ما يزيد على ثلاثة عقود في تقريرها "التعلم: ذلك الكنز المكنون"، الذي صدر في بداية الألفية، وجعل من التعليم للعمل أحد الوظائف الرئيسية للمدرسة الحديثة، على الرغم من أن ربط المدارس بالحقول في ذلك الوقت الب كثير من المنظمات الدولية ضد نيريري بحجة الإساءة إلى حقوق الأطفال التي من ضمنها اللعب بدلا من العمل، ولكن نيريري فظل للطفل العمل ورأى فيه صقلا لشخصيته، وتدريبا على تحمل المسؤولية والاعتماد على الذات.

لقد رفض "نيريري" أن تتكون مواد المنهج التي تدرس الأطفال من الأساسيات التي تتطلبها المهن في المستقبل مثل الطب والهندسة والتعليم والاقتصاد، لأن تعليمهم يجب أن يركز على المهارات والقيم التي يحتاجونها ليستطيعوا الحياة بسعادة في مجتمعهم، ومن أجل تحقيق هذه الغاية نظر "نيريري" إلى المدرسة نظرة مختلفة جدا، فهي ليست مدرسة منعزلة عن مجتمعها، إنما عدها مركزا اقتصادياً تعليمياً؛ فكل مدرسة لابد أن تكون المزرعة أو الورشة مكوناً أساسياً من مكوناتها، المزرعة من أجل أن توفر الغذاء للمجتمع الصغير الذي توجد فيه، وبالتالي تقدم مساهمة في الدخل الوطني، وحتى لا يفهم البعض أن وجود هذه المدارس والورش هو فقط لأغراض تدريبية، قال نيريري:"هذا ليس اقتراحا لإلحاق مزرعة وورشة العمل بكل مدرسة لأغراض تدريبية، إنما هو اقتراح لتكون كل مدرسة مزرعة"، أي مزرعة حقيقة منتجة تقوم بدورها التعليمي والاقتصادي، مما يجعلها مدرسة منتجة لا تُعلم الطلبة معارف منتجة فقط إنما تقودهم لكي يكونوا أدوات تحيي الحقول والمزارع، أو أن يوفروا في الورش المختلفة بعض احتياجات مجتمعهم.

هذه المنهجية، وإن بدتْ أنها تركز على الإنتاج، إلا أنَّ غايتها أكبر من ذلك؛ فهي تعلم الطلاب المواطنة بطريقة عميقة جدا، حين يتعلمون معنى الحياة المشتركة من خلال العمل بشكل مشترك من أجل تحقيق رخاء الجميع، بدلا من العمل من أجل اجتياز الامتحانات بشكل يحقق النجاح الفردي، ومن أجل ذلك رفض "نيريري" أن تعمل المدارس من أجل تحقيق المعايير الدولية على حساب الحاجات الوطنية الملحة، ورغم أن نيريري قد رحل في 14 أكتوبر عام 1999م، إلا أن فلسفته التربوية لا تزال تستقطب اهتماما كبيرا من قبل الباحثين الذي ركزا على دراسة تأثير التعلم من خلال المشاريع الزراعية أو الحرفية بدلا من الاقتصار فقط على الصف الدراسي.

وقد كشفتْ هذه الدراسات عن فاعلية فلسفة نيريري في تعلم الطلبة وتحسن اتجاهاتهم، ومن ضمن هذه الدراسات دراسة كبيرة أجريت في الولايات المتحدة الامريكية في التسعينات من القرن الماضي؛ حيث أظهر الطلاب المشاركون تفوقاً في الاختبارات المعيارية في مواد الرياضيات والعلوم واللغة مقارنة بنظرائهم في نفس المدرسة ممن لم يشاركوا في هذه التجربة، كما أظهرت الملاحظات وجود دافعية كبيرة لدى الطلاب المشاركين لمزيد من التعلم. وأُجريت دراسة في هولندا تقوم على ملاحظة تعلم الطلاب من خلال زيارة المزرعة لثلاث مجموعات من الطلبة؛ خصص للمجموعة الأولى زيارة واحدة في اليوم. أما المجموعة الثانية فخصص لها زيارة تمتد لأسبوع كامل، والمجموعة الثالثة خصص لها زيارة تمتد عشرون يوما، وأظهرت النتائج تحسن كبير في الأداء العلمي لدى جميع المجموعات، وأجري استبيان لأسر هؤلاء الطلبة كشف عن أن طلبة المجموعة الثالثة كانوا أكثر مسؤولية في القيام بأعمال المنزل.

لا شك أنَّ فلسفة "نيريري" حول التعليم المبني على الانتاج تستحق الاهتمام في ظل تداعيات الأزمة الاقتصادية، لا يمكن أن تمضي مؤسسات التعليم وفق أهداف تنشد الإنتاج لكنها مؤسسات تستهلك ولا تنتج، لا أتكلم هنا عن المدارس ولكن أتكلم عن عشرات الكليات والجامعات التي تجعل الطلاب يتمركزون حول معرفة نظرية وتعزلهم عن حقول التجريب والإنتاج، وتقدمهم لمجتمعهم خريجين غير قادرين على الاعتماد على أنفسهم.