خروف يافع.. يواجه الخراف والراعي

 

 

راشد بن حمد الجنيبي

"التخيل" لغةً (اسم): تأليف صورة ذهنية تحاكي ظواهر الطبيعة، وإن لم تعبر عن شيءٍ حقيقيٍ موجود.

منظومة رعوية، مزرعة رعوية، أو بالأصح مرعى للخراف وغيرها من المواشي، به خيرات عظام وفاكهةٍ ومياهٍ وألبان، ونعمٍ عديدة وزد عليها الأنعام، لو صفت خيرات المرعى لغطت نور الشمس، مجدداً من عالم الصور والأحلام، ومن جعب الحكايا وقصص الكان يا ماكان، من أرض الخيال مجدداً وفي أرض الخراف، في إحدى صباحات الربيع العليل، ومع النسيم المنعش الجميل، ومع أصوات مزامير نغم الهديل، ولد "حمل" صغير في صدر هذا المرعى باذن رحمة الرب الجليل.

وبعد الربيع والصيف والخريف والشتاءات والسنين، كبر الحمل وصار خروفاً يافعا، ودقت التساؤلات جدران عقله وأفكاره، وهز فضوله معتقداته وخزينة التقاليد المحملة عليه من أجداده، وتحمست جرأته على مواجهة الموروث الشعبي المصاغ من أسلافه، وطبعاً في كل محاولاته للتفكر والاكتشاف تقف كل هذه العوامل ضده مشكلةً زنازين من وهم، وعادةً ما تفوز حججه واستنتاجاته وما يقتنع به على ردود أهله وأقرانه وتكسر أي تحجيمٍ منهم للتر، أصبح هذا الخروف اليافع واعيا بما يدور من حوله، ورأى أنَّ المنظومة التي يعيش فيها هي فقط عبارة عن مرعى يتكون من طرفين أساسيين، وهما الخراف "كل الأنعام" والراعي، وتعيش الخراف على الخير والمكرمات التي يغدق بها الراعي عليهم في حال رضاه عنهم، وغالباً هو راضٍ فهو يحبهم وجميعهم يحبوه.

الخروف "يافع" يُحب التعمُّق في الأمور دائماً، ولا يكتفي بالمسلمات، وجل همه أن يفرق بين الصواب والغلط، وأن يعرف الصحيح من الخطأ، بدايةً من بيته وصولاً لكافة أطياف مجتمع المرعى؛ ففي بيته الصغير "حظيرة أهله" المكون من إخوته ووالديه، يكون المشرع الأول والفاروق الذي يميز الصواب من الخطأ هو الأب، لا كلمة ولا رأيٍ ولا صوت يعلوا عن صوت مأمأة الخروف الأب، فهو الأعقل والأكبر والذي تكبد عناء رعاية الأبناء، وهو عينهم على الدنيا ومنه يرون الوجود، خارج المنزل "حظيرتهم الخاصة" فقبيلة "الخراف البيض" التي ينتمي "يافع" إليها هي الفئة المختارة من السماء، حسب منظور قبيلة، وهي أزكى عن خراف الجبل الفقيرة وأعظم عن قوافل التيوس وأشرف عن الأبقار والثيران، رغم أن جميعهم يعيشون في نفس المرعى، لكن هنا "الخراف البيض" ووجهائها وشيوخها هم ذوو الدم النفيس وهم المميزون بين الصواب وغيره، وعندما يلجأ "يافع" للخراف الكهنة، يردد كبيرهم "الحلال بين والحرام بين" محتجاً بأن مذهبه "مذهب الصوف الأبيض" أصح من غيره من المذاهب، كمذهب الصوف البني والرمادي ومعتقدات الجمال وباقي التيوس، وجميعهم أيضاً يعيشون في نفس المرعى، وإذا ابتعد عن مسائل الفكر المنهكة، وصل لكبار التجار من الخراف الذين يشار لهم بالنجاح والتوفق لكثرة القش والمياه العذبة والحظائر الكبيرة التي يحوزون عليها، لكنهم يرون أنَّ امتلاك المادة هو النجاح، وفوق ذالك جل خيراتهم ترسل لخارج المرعى فهم يخافون عليها، وظل "اليافع" يتفكر ويبحث عن ضالته.

وحين تطوَّر الوضع، وصل الأمر بالخروف اليافع إلى أن يتعرف بفئة مختلفة من مجتمع المرعى، تضم عدة حيوانات مختلفة من عدة أطياف، يربطهم مبدأ واحد اسمه "الليبرالية"، ومنتموه في المرعى يدعون أنفسهم بـ"ليبروماعزية" أو "الليبروخروفية"، لكن نهاية اليوم لم يجد يافع ضالته عندهم؛ لأنَّ الليبرالية الصحيحة المطبقة عند المراعي البعيدة خلف جبال الألب ومراعي اللاما في الأمريكيتين مختلفة، ففي الأصل هي مزيج من الحرية والمساواة، لكن في حظيرته من يدعون التحرر لا يفرقون أصلاً بين الليبرالية والعلمانية، يحبون التحرر، لكن لا يحملون ثقافة احترام الطرف الآخر وتقبل اختلافه أبداً بغض النظر عن فكره أو معتقداته، رأى يافع أن معظم "الليبروماعزية" هم نتاج سلبي نشأ كردة فعل على تشنج القبلية والتدين أو "التمذهب"، وهم فقط مخالفة ذلك دون رؤيةٍ واضحة.

وفي رحلة البحث والتفكر، رأى الخروف اليافع أنَّ كلَّ الطوائف وجميع الأعراق الحيوانية مع جميع قطعان الخراف والتيوس...وغيرها، مع تابعي الليبروماعزية وجميع من هم مهوسون بجرعة زائدة من التحرر، جميعهم يجمعهم أمر واحد، وهو حب الراعي وعدم مخالفته، بل جميع من يخالف أو يناقش أو ينتقد أو يتفكر فقط في أوامر الراعي يكون مصيره مذبوحاً في وجبةٍ دسمة كقربان لإرضاء الراعي، وكل تلك الطوائف والأحزاب التي تتغنى باختلافها وتتباهى به هي أول من يسلم أي خروفٍ شاذ يشكك فقط في أوامر الراعي، جميعهم يحبون الراعي بأخطائه ومحاسنه، وكل تلك المعتقدات والأفكار والأحزاب ليست إلا صوراً متنوعة لحب الراعي والتطبيل له.

والفئة الشاذة أو "الخوارج" كما يسميها الكهنة، ينتمي إليها الخراف والتيوس والجمال...وغيرهم أيضاً حتى المذاهب المختلفة، يجمعهم فقط هم التساؤل والتفكر والبحث عن الحقيقة، ويظل "يافع" بعد كل ذلك صامتاً تائهاً متسائل، مفكر متلعثم ومتردد صغير يخاف من بؤس المصير.

Rashidhj1139@hotmail.com