"إذا الشعب يوما أراد الحياة.."

 

 

سُلطان الخروصي

من لا يستحق الديمقراطية لا تحقُّ له الحياة الكريمة، ومن ينسف إنجازات وطنه لحفنة من أفكار بالية أو أجندة خارجية رخيصة فليس له مقام عند الأحرار.. يُذكِّرنا التاريخُ الحديث بأنَّ جل الانقلابات العسكرية كانت شبه ناجحة؛ لأنها تُبنى على جسِّ نبض الشارع وتكدس أخطاء الحاكم بما لا يدع له مقاما للرحمة والشفقة ما لو انقلب السحر على الساحر، لكن من الغريب جدا أن يكون هناك زخم كبير من القادة العسكريين بمختلف الرتب والمناصب وممولين بأنهار متدفقة من المال والسلاح استطاعوا بين غمضة عين وانتباهتها أن يسيطروا على مفاصل الدولة، وما هي إلا برهة من الزمن حتى انقشع كل ذلك الضجيج بمجرد مكالمة فيديو مسجلة يبثها رئيس دولة لشعبه! نعم حصل ذلك في تركيا الديمقراطية حيث الإبداع والحرية والإنتاجية والتطور والنمو المتنامي والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي، وقبل ذلك ثقافة الديمقراطية الحقيقية بين أفراد المجتمع، وتلك ثروة لا تُقدَّر بثمن.

أردوغان.. هذا الرجل الذي شغل العالم بإنجازاته الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والعسكرية، وشغلهم كذلك بإخفاقاته السياسية الخارجية والداخلية -كما يراه البعض- كثير من المسؤولين العرب والغرب راهنوا على زعزعة عرش السلطان الثاني عشر لتركيا الحديثة، وكثير هم "العواذل" الذين اصطفوا خلف شاشات التلفاز، مُهلِّلين ومكبِّرين وساخرين من هذا الرجل الذي شعروا ذات يوم بأنه ثقيل على صدروهم لأنه -حسب تعبيرهم- لا يخدم المصالح العربية (إن وُجِدت أصلا مصالح عربية)، وأذكر أنني حينما كنت أناقش أحد الزملاء حول أنَّ تأييد الانقلاب العسكري هو خطأ جسيم؛ باعتبار أنَّه تقويض للديمقراطية التي سعت الدولة إلى غرسها في المجتمع ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، فقال لي بالحرف الواحد: "تريث قليلا من الزمن يا سلطان؛ فعهد أردوغان قد ولى وسيحصد نكاية ما زرعه!"، وما هي إلا دقائق حتى نزل الشارع كالمطر المنهمر ليملأ ميادين تركيا المختلفة وهم يهتفون باسم الحرية والديمقراطية، وأصبحوا كطير أبابيل ترمي الحجارة على رؤوس جبروت العسكر حتى لا تكون تركيا هي مصر أو ليبيا أو العراق العربي.

انْقَسم المجتمعُ العربيُّ بمختلف أطيافه بين مؤيد ومعارض لما حصل؛ لاعتبارات متباينة منها ما يتصل بشخص أردوغان أو اتجاهاته الفكرية والدينية؛ وفي ذلك نستشهد بقول نائب رئيس شرطة دبي الفريق ضاحي خلفان: "لو يحدث في الخليج العربي أي عمليات لجماعات الإخوان، فإن أول نصير لجماعة الإخوان سيكون أردوغان، فهو لا يخدم الأمن القومي العربي".. وأتساءل عن ماهية الأمن القومي العربي الذي يعنيه؟. ومنها اعتبارات سياسية من خلال ممارساته العسكرية في سوريا والعراق أو غيرها، لكنَّ الشاهد في الأمر هو هذه الصورة الدراماتيكية العجيبة التي نادرا جدا ما تحصل في العالم حينما يكون الانقلاب مدفوعا ماديا ومعنويا من أقوى دول العالم ويقوده عدد من رجالات العسكر النافذين بهذه المؤسسة والتي تمثل خط الدفاع الأول للدولة، وأمام كل ذلك يقف المنقلبون عاجزين أمام تدفقات الشعب الذي يلفظهم، وما هو سر الالتحام الشعبي المباشر بين رسالة القائد بالنزول للشارع وهذه الاستجابة السريعة بتدفق الملايين، فهل يدل ذلك على دكتاتورية الرئيس وتسلطه وظلمه كما زعم بعض العرب الأشاوس؟! ويقال من أراد أن يباهي بعظمته أمام الأقزام، فعليه أن يجعل على صدره وساما كتب عليه: "ليس الفتى من يقول كان أبي... إن الفتى من قال ها أنا ذا".

وهنا.. نطرح سؤالا كبيرا إلحاقا بما جرى: فما الذي جرَّ ملايين الأتراك من معارضين ومؤيدين للاصطفاف خلف هذا الرجل ليتقاطروا دفاعا عنه من كل فج عميق؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال أطرح قصة حول أحد الإعلاميين العرب حينما سأل مواطنة تركية علمانية: لماذا نزلت للشارع وأنت ضد الرئيس؟ فقالت: "أكره أردوغان لأنه يدافع عن الحجاب والمعتقدات الإسلامية، لكنني نزلت دفاعا عنه؛ لأنه علَّمنا معنى الحرية والديمقراطية المدنية، ولأنني قبل حكمه كنت أزور والدتي في الشهر مرة واحدة بسبب الطريق، والآن أزورها مرة في الأسبوع، ولأن أبنائي عشقوا التعليم والمعرفة بسبب تشبثه بتطوير التعليم، ولذلك سأدافع عنه"، وذلك يدفعنا للتساؤل: ما هي الإنجازات التي قدمها أردوغان للشعب التركي ليعشقوه حتى الثمالة، ومستعدون للدفاع عنه بكل ما يملكونه؟!

بالرجوع إلى تلك الإنجازات، نجد أنَّ هذا الرجل استطاع انتشال الاقتصاد التركي من وحل الركود إلى الانتعاش؛ حيث كان أعلى معدل لقيمة الصادرات التركية للعام المنصرم؛ إذ وصل إلى 152 مليار دولار، بمعدل 10 أضعاف ما كانت عليه قبل توليه الحكم، كما تقدم ترتيب تركيا العالمي في منظومة الاقتصاد الدولي من المرتبة 111 إلى 17، وكان معدل دخل الفرد السنوي قبل توليه الحكم 3.5 ألف دولار ليرتفع في عهده إلى 10.5 ألف دولار، وفي العام 2011 قامت حكومته بسن قانون الأقليات المسيحية واليهودية لإرجاع الحقوق لها، بعدما تم مصادرتها عنوة في العام 1930م، وعمل على إعادة قيمة الاستثمار العقاري من 0.05 إلى 2 مليار دولار، واهتم كثيرا بالتعليم فهو ركيزة الدولة وعماد قوتها واقتصادها فرفع ميزانية وزارة التربية والتعليم من 7.5 إلى 34 مليار ليرة تركية في العام 2011، وأعلن في العام 2008 عن مجانية التعليم وإرجاع المطرودين والمفصولين للتعليم، بل جعله إلزاميا بين 8-12 سنة، وعمل على استقلالية الجامعات في كل محافظة ليرتفع معدل الجامعات بعدما كانت في عام 2002 حدود 98 جامعة لتصل في العام 2012 إلى 186 جامعة، ورفع عدد المطارات بالجمهورية من 26 مطارا حتى وصلت بنهاية عام 2015 إلى 50 مطارا، وفي خلال ثماني سنوات وبالتحديد منذ العام 2009 وأثناء تقلده المناصب السياسية من رئاسة الوزراء وحتى رئيس الجمهورية، استطاع مد السكك الحديدية على مستوى عالمي عال بامتداد 5500 كم، كما بدأ في العام 2004 ببناء أضخم وأطول نفق مغمور بالمياه على مستوى العالم بطول 9 كم تحت مضيف البسفور، وأمام كل هذه الإنجازات الداخلية والسجل الحافل بالعطاء يتساءل السادة العرب: لماذا الشعب التركي يناصر أردوغان؟! وهم يقرؤون أبيات أبي القاسم الشابي:

"هو الكون حي يحب الحياة...

ويحتقر الميت مهما كبر

فلا الأفق يحضن ميت الطيور...

ولا النحل يلثم ميت الزهر"

الكثيرُ من العرب يعيبون على أردوغان تدخلاته السياسية الخاطئة في الوطن العربي، وتحالفاته مع الكيان الصهيوني، ويغضون الطرف عن تحالفاتهم مع هذا الأخير اقتصاديا واستخباراتيا. يتناسون أنَّ التجربة التركية كان محكها صناديق الاقتراع النزيهة وليس خزعبلات الكلام المعسول "بالروح بالدم نفديك يا رئيس"، أو أفكار بالية، أو التصويت تحت قبضة النار والحديد، هكذا هي ديمقراطية الشعوب المسؤولة تدافع عن حقها في الحفاظ على الإنجازات الوطنية لا التشبث بالكرسي وهو يعلم أن شعبه يلعنه جهارا نهارا وليلا ونهارا، فما يكون الحل في ذلك إلا تدمير الوطن بكل إنجازاته على العباد، لتظل جوانح المواطن العربي تتساءل كما قالها أبو القاسم الشابي أيضا:

"تسائل: أين ضباب الصباح؟...

وسحر المساء؟ وضوء القمر؟

وأسراب ذاك الفراش الأنيق؟...

ونحل يغني وغيم يمر؟

وأين الأشعة والكائنات؟...

وأين الحياة التي أنتظر؟".

 

sultankamis@gmail.com