التعليم.. صناعة القابلية للإرهاب

 

د. سيف بن ناصر المعمري

لا شك أنَّنا نَمرُ بمرحلةٍ حرجةٍ جدًا في المنطقة، حيث تقوى يَدُ الإرهاب ..بل إنِّها تتحول إلى أخطبوط تطال أذرعه كل الدول، فلا تخمد نيران التفجيرات في مكان حتى تشتعل في مكان آخر، ولا يكاد يجف دماء الضحايا على أرض حتى تراق دماء أخرى، وكأنّه أصبح قدرًا على العرب أن يرووا أرضهم بدمائهم الذكية، فالأرض يبدو أنّها أصبحت عطشى للدماء، لا ترتوي أبداً، تحتاج كل يوم إلى عشرات القرابين من أجل غاية لا يعرفها إلا الله سُبحانه وتَعالى، والعجز واليأس يعُم الأرجاء من إيقاف هذا النهر المُتدفق من الدماء، فالسياسيون ورجال الدين الذين اعتادوا إشعال الحرائق لا يعرفون كيف يطفؤونها، والنُخب الفكرية والأكاديمية لا تزال تتفرج على ما يجري في ذهول، لأنّها ربما ترى أنّ حسم ما يجري لن يتم إلا عسكريًا في وقتٍ تُغتال فيه عقول الشباب ببراعة من قبل اتباع هذه الجماعات الإرهابية، مما يجعلنا نتساءل لماذا لم تصمد عقول هؤلاء الشباب أمام أساليب هذه الجماعات للإقناع بفكرة صعبة جدًا وهي "قتل الآخرين"؟

إنّ هذا السؤال وغيره من الأسئلة تطرح نفسها بقوة ونحن نرى مسارين ومنهجين: المسار الأول هو تراجع الدور التنويري للتعليم ومؤسساته الرسمية التي أخذت إجازة رغم كل ما يجري من استهداف للشباب وتنشئتهم لقتل عوائلهم وأبناء أوطانهم، ولا تزال ترفض أن تُغير في المنهج بما يتلاءم والظروف الحالية، والمسار الثاني وتمثله هذه الجماعات التي تعمل بمنهج تعززه دافعية كبيرة وإيمان بأفكارها وبالتالي تُحقق نجاحات كبيرة في تجنيد هؤلاء الشباب من مُختلف المجتمعات، وتوظف كل الوسائل التكنولوجية لتحقيق أهداف منهجها في وقت فشلت فيه الأنظمة التربوية الرسمية في ذلك، وإلا ما انطلق هؤلاء الشباب إلى الموت بهذه الطريقة، ولما نجح بضعة أفراد في التأثير على عقولهم التي لم يزودها التعليم بصمامات أمان تُمكنها من تفنيد الرسائل الجذابة التي تصلها وتُحاول الاستفادة من حالة الفراغ والإحباط التي تعيشها.

علينا أن نواجه أنفسنا..ونعترف بأن منهج داعش يتفوَّق على المناهج الرسمية القائمة، وأن إيقاف ما يجري لن يتم بالوسائل السياسية والعسكرية فقط إنما من خلال مواجهة فكرية تقودها مؤسسات التعليم في المنطقة قبل فوات الأوان، لأنّ العدو لديه منهج تقدمي ومُعلمون على قدر كبير من المهارة والإيمان بما يفعلون، بعكس المناهج الرسمية والقائمين على تنفيذها، توافرت إرادة قوية لدى أتباع هذه الجماعات في حين ضُعفت هذه الإرادة لدى القائمين على شؤون التعليم، وبدلاً من أن ينصب اهتمامهم على تطوير مناهج ردع لما يجري، أنصب اهتمامهم على مطاردة التصنيفات العالمية علهم يحصلون منها على نقطة يتقدمون بها من الترتيب الذي يوجدون فيه.

مؤسف أن توجد مئات المدارس والجامعات في المنطقة العربية وتنجح أسماء قليلة في بث كل هذا الموت والدمار والفوضى في المنطقة، رغم أنّهم يعملون وفق اشتراطات صعبة لا يُمكن مقارنتها بتلك التي تعمل وفقها المدارس والجامعات، ورغم أنّه لا يتوافر لها كل هذه السياسات واللجان والإمكانات وسُبل الإعداد واشتراطاته، ولذا لا يُمكن أن نعفي كل هذه المؤسسات مما يجري، لأنّها وهي تمثل قوى التنوير والحداثة لم تخرج إلا هذه الآلاف من المحبطين والمهمشين واليائسين من الشباب الذين يفتقدون لمهارات التفكير والجدل، فشلت في تسليحهم بالأمل والانشغال بتغيير الواقع بالفكر والحوار بدلاً من تغييره بالقتل والتدمير، ولذا نتساءل ما النجاح الذي حققته مؤسسات التعليم بكل أطيافها في ظل تنمية مُتعثرة، وإرهاب يغزو المنطقة ويتمدد فيها، ومجتمعات مُنقسمة على نفسها، وثروات مهدرة، وأمن واستقرار يتقلَّص وتنحسر معه كثير من الحريات والحقوق، أما آن الأوان لتعي مؤسسات التعليم أن لها دور كبير في تهيئة الأرض لنمو بذور الإرهاب بكل هذه الأساليب التلقينية التي توظفها؟.

 

إذا لم توجد مراجعة جادة وسريعة لدور التعليم في مواجهة الإرهاب فسوف تفوق مناهج ديوان التعليم التابع لما يُسمى بالدولة الإسلامية وهو منهج مُعد بشكل صارم يعد الطلبة ليكونوا مقاتلين للخلافة من خلال تدريسهم الفقة والدين الإسلامي واللياقة البدنية من خلال نصوص منتقاة بعناية في وقت يستبعد هذا المنهج أيّ مواضيع تتعلق بالجغرافيا والتاريخ والرياضيات، فلا وجود للحدود الجغرافية من وجهة نظر هذا المنهج، أما المعلمون فلا يزاولون عملهم إلا بعد اجتياز دورة شرعية صارمة يتم من خلالها التعرف على قابليتهم وانتمائهم لمبادئ التنظيم، ومن مميزات هذا المنهج تركيزه على التَّعلم بالعمل وبالذات في اللياقة البدنية واستخدام السلاح، وتركيزه على تحمل المسؤولية حيث يكلف الأطفال الصغار بمسؤوليات قتالية ورقابية تتعلق بأسرهم في البداية، وفي الوقت الذي يجلس طلبة مؤسسات التعليم الرسمية على الكراسي بدون أي مسؤوليات يتواجد طلبة داعش في الساحات يتدبرون وفق منهج لا يعترف إلا بالاتقان وبلوغ حد للتمكن الذي همشته مؤسسات التعليم الرسمية، ومن هنا تزداد المخاوف من خطورة هذا المنهج الذي يتبنى أفكار التيار التربوي التَّقدمي الذي نظر له كثير من المُفكرين وفي مقدمتهم جون ديوي، وهو منهج يهدف إلى إعداد شخصية قوية قادرة على القتل، فكيف يُمكن أن يواجه منهج يعمل وفق منهجية واضحة لا تقبل إلا تحقيق الهدف؟ هل يمكن مواجهته بالفكر التربوي الحالي القائم على التلقين؟ إنّ الأسئلة كثيرة والإجابات قليلة ومُهمة التعليم في الوضع الراهن هي تقديم منهج قادر على إيقاف تأثير منهج داعش ونجاحه،،إن لم يكن هذا هو الهدف فالتعليم هو خارج دائرة ما يجري، وإذا خرج التعليم من المواجهة فإنّها لن تحقق التَّقدم المأمول منها.