علي المعشني
"الربيع الإسلامي" هو الصندوق الأسود والوجه الخفي لما سُمِّي زورًا بـ"الربيع العربي" على وزن وهدف ربيع براج عام 1968م، حيث قُصد منه إسقاط نُظم الممانعة في الوطن العربي أي مكونات جبهة الصمود والتصدي تباعًا (العراق، سوريا، ليبيا، الجزائر، اليمن الجنوبي، منظمة التحرير الفلسطينية).
كُلنا رأى بالعين المجردة ما حدث للعراق وليبيا، وما يحدث لسوريا، وما يُخطط للجزائر، ومصير القائد الرمز ياسر عرفات، وعلينا وعي واستيعاب بُعد ما سُمِّي بالحراك الجنوبي في اليمن بمعزل عن مظالم الجنوب من الوحدة اليمنية.
بداية الربيع بتونس الوادعة، ومصر الحليفة للغرب ومُوقِّعة كامب ديفيد، لا يعني العفوية والصدفة والخيار الوطني لذلك الحراك رغم المظالم والوصفات الجاهزة للثورات والسخط الشعبي. فالمقصود في تونس هو تموضع التيار الإسلامي متمثلًا بحركة النهضة، وفي مصر تمكين الإخوان من الانقضاض على السُّلطة وتقليم أظفار المؤسسات العميقة والحرجة لمصر كالمؤسسة العسكرية والأمنية والأزهر والقضاء والإعلام بزعم التطهير والفلول وبناء الدولة العميقة.
لم يستوعب الإسلاميون -وعلى رأسهم الإخوان- أن نجاحهم الكبير كحركة دعوية ذات نشاط قيمي مشهود طيلة عقود عمرها لا يشفع لهم لقيادة دول ورسم سياسات وأنهم سيكونون في النهاية أمام سندان ومطرقة دون خيار ثالث، إما أخونة الدولة قسرًا وبناء طغيانهم واستبدادهم الخاص بهم على أنقاض أسلافهم، أو أن يُحكم بهم من قبل رعاتهم ككل أغرار السياسة والنُظم الوظيفية عبر التاريخ.
لم يكن أكثر المتشائمين أو المتفائلين يتوقع هذا السقوط المدوي والمُريع للإسلام السياسي وإفلاسه السريع على محك التجربة بعد أن بقي أسطورة في أذهان الملايين في الوطن العربي، والتي تمنَّتْ تمكينه من السلطة في أي حين "لتنعم" بجهوده وعدله ونشاطه السلطوي كما نعمت بجهوده الدعوية والقيمية من أعمال تطوعية وخيرية لعقود خلت. مشكلة الإسلام السياسي ومعتنقيه أنهم على عداوة تاريخية مع ثوابت ومسلمات استقرت في وجدان الأمة، فكرية ومؤسسية، كالقومية العربية ومشتقاتها من وحدة عربية وتضامن عربي ومصير عربي مشترك، ويقفزون فوقها بشعارات طوباوية مُخلة وغير منطقية كالخلافة والوحدة الإسلامية، ويتجاسرون على تلك الثوابت والمسلمات ورموزها، إضافة إلى جهرهم بمعاداة المؤسسات العسكرية والأمنية وماتمثله من كرامة للأوطان والشعوب رغم كل ما عليها من مآخذ أو ملاحظات. لم يتساءل الإسلاميون في هوس الربيع لماذا رفضوا وحوربوا في السودان والجزائر وغزة، ولماذا بوركوا ورفع عنهم الفيتو في الربيع؟ حقيقة المهمة التي أوكلت للإسلاميين في الربيع تتمثل في حال تمكينهم من السلطة في ضرورة تجفيف العروبة ومشتقاتها وإعادة هيكلة الجيوش العربية بما لا يهدد أمن الكيان الصهيوني مقابل تمكينهم من خلافة بلا أسنان أو مخالب. وهذا الكلام ليس مرسلًا على عواهنه، بل مُوثَّق بالنتائج على الأرض، حيث تنكرت زعامات الأخوان لجميع مقررات المؤتمر القومي العربي والذي فتح الباب لحوار قومي إسلامي عبر مؤتمر سنوي عقد لأكثر من عقد من الزمن، وتمت فيه مراجعات عميقة بين أكبر فكرين سياسيين في الوطن العربي -القوميين والإسلاميين- واهتدى فيه الجميع إلى الإقرار التام والتسليم بأن لا قومية عربية حقيقية بلا إسلام، ولا إسلام حقيقي بلا قومية عربية. والأمر الثاني فقد أعلنت حركة الإخوان في سوريا رفضها لجميع العروض التي قدمت لها لحقن الدماء ووقاية وطنها من الخراب والتدويل بما فيها قبول النظام السوري بتشكيل الإخوان لحكومة منهم مخولة بمراجعة وإصدار القوانين والتشريعات التي من شأنها تقويض الديمقراطية والحريات والمساءلة القانونية.
فقد تمادتْ في شروطها التعجيزية وأحلامها الوردية حتى أصبحت ورقة صفراء بالية في ملف أعداء سورية. برهن الإسلاميون بأنهم طلاب سُلطة وبأي ثمن كان، ومقدمي تنازلات ومن أي حجم كان، وأتباع إسلام حزبي ضيق يقدم المرشد على كل شيء ومصلحة الجماعة على الوطن فجعلوا كل ما قيل عنهم من النُظم العربية قليل وكل ما فُعل بهم من تلك النُظم قليل كذلك، لقد تناسى الأخوان أنهم رفعوا أطهر شعار لأطهر رسالة لإنقاذ الثوابت والأوطان وصونها لا لدغدغة مشاعر الناس والوثوب على السُّلطة. لم يعد ينفع الأخوان اليوم شيطنة خصومهم، تلك الحرفة التي امتهنوها في عقود الطهارة السياسية والأسطورة العذرية فقد رأت الناس اليوم منهم ما يُخجل الشيطان.
عليهم الاعتذار للشعب العربي من أقصاه إلى أقصاه، ومن تراب الوطن ولمؤسساته العميقة الوطنية؛ كي يعودوا مواطنين صالحين في أوطان صالحة للعيش والحياة.
----------------------
قبل اللقاء: يقول الشاعر أحمد فؤاد نجم: "رجال الدين ليسوا نصابين، بل النصابون أصبحوا رجال دين".. وبالشكر تدوم النعم!
Ali95312606@gmail.com