عيسى بن علي الرواحي
أوضحت في المقالين السابقين عن علاقتنا بالقرآن الكريم من حيث تلاوته والاستماع له، وهجر كثير من المسلمين اليوم للقرآن الكريم من حيث التلاوة والاستماع، وأتطرق اليوم إلى وجه آخر من أوجه هجر القرآن الكريم وهو هجر تدبره والتفكر في معانيه، ولا ريب أنّ من يهجر القرآن الكريم تلاوة واستماعًا، فإنه سيهجره تدبرا وتفكرا، ولعل هذا الوجه من الهجران هو واقع أغلب الناس في وقتنا الحالي.
وقد تكون علاقة المسلم بالقرآن الكريم قراءة واستماعًا محمودة حيث لا يترك تلاوة الكتاب العزيز يومًا من الأيام وكذلك الاستماع، لكنه لا يقرأه بتدبر وتفكر فيصير همه من القرآن آخر صفحة، كما يقول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: (لا تهذوا القرآن هَّذ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة).
لقد أنزل الله تعالى هذا الكتاب العزيز لأجل تدبره والتفكر في معانيه، بل إنَّ تدبر آياته والاتعاظ بها وأخذ الموعظة منها من أسمى غايات إنزال القرآن الكريم يقول الله تعالى : (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب﴾[ص:29]. ويقول الله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَۚوَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [سورة النساء : 82]
ويقول أيضا: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[محمد:24].
لقد نزل القرآن الكريم بلسان عربي مُبين، ويسره الله تعالى للذكر حيث يقول تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [سورة القمر : 17]
وعليه فليس كما يظن كثير من عامة الناس أنّ أمر تدبر القرآن الكريم محصور في العلماء والمُفسرين بل يهم كل مسلم يتلو كتاب ربه، وليس كما يظن بعض الناس أن التدبر يعني تفسيره وبيان معانيه، وإنما المراد من قارئ القرآن الكريم أن يستحضر قلبه وعقله وهو يتلو آيات ربه بحيث لا تشغله الشواغل ولا يكن في عجلة من أمره وهو يقرأ فليست العبرة بالكم وإنما الكيف، وقد أوضح بعض أهل العلم بأن قراءة آية من القرآن الكريم بتدبر وحضور قلب قد تكون أعظم عند الله من ختمة المصحف من غير تدبر ولا تفكر.
وقد يتعلل بعض من يتركون تدبر القرآن الكريم بأنهم لا يستطيعون هذا الأمر، وأنه فوق طاقتهم، ولكن هل يُعقل أن يأمرنا الله تعالى بأمر ما وهو فوق طاقتنا أو أنّه لا يمكننا الإتيان به، ففي الآيات السابقة يوبخ الله تعالى من لا يتدبرون القرآن الكريم أثناء تلاوته، وقد يستثنى من ذلك من كان لسانه أعجمياً لا يعرف عن العربية شيئاً بيد أنّه قارئ للقرآن الكريم وقد يكون حافظاً له.
إن صلاح القلب واستقامة السلوك وبلوغ العلا في مراتب الإيمان ونيل الفضل وتنزل الرحمات تتحقق بقراءة القرآن الكريم قراءة تدبر وتفكر، وليست كأيّ قراءة، وهذا ما بينه الشيخ محمد رشيد رضا بقوله: (لو أنّ المسلمين استقاموا على تدبر القرآن والاهتداء به في كل زمان لما فسدت أخلاقهم وآدابهم، ولما صاروا عالة في معايشهم على غيرهم)، ويمكن أن نقيس على قراءة القرآن الكريم قراءة تدبر وتفكر بأمر الصلاة، فالصلاة التي تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، ويستقيم معها السلوك هي الصلاة التي يتحقق فيها الخشوع والإتيان بجميع أركانها، وهكذا القرآن الكريم بحاجة أيضًا إلى خشوع قلب وحضور عقل، فليس كل من صلى أقام الصلاة، وليس كل من قرأ القرآن تدبره.
وإذا كان في هذا الزمان من الوسائل والمُلهيات ما تصرف المرء عن تدبر القرآن الكريم؛ فإننا بالمقابل نجد أن هناك وسائل وطرقًا تُعين المرء على تدبر القرآن الكريم، فهناك دورات متخصصة تقام في هذا الشأن، وتعلم الإنسان كيف يمكنه قراءة القرآن الكريم قراءة تدبر، وتفتح له آفاقا رحبة في تعامله مع القرآن الكريم وهو يتلوه أو يستمع له، وكما أشرت آنفاً فإنَّ على الإنسان ألا يكون همه من القراءة آخر الصفحة، ويسعى للكم دون الكيف، كما عليه أن يعين نفسه في شأن تدبر القرآن الكريم، بأن يكون على وضوء وفي مكان خالٍ من الضجيج والإزعاج، مستحضراً قلبه وعقله، تاركاً هموم الدنيا ومشاغلها وراء ظهره، موقناً أنه بقراءة القرآن الكريم فكأنما يكلمه ربه، فقد قيل إذا أردت أن يكلمك ربك، فعليك بتلاوة القرآن الكريم.
وأمر آخر يتعلق بعلاقتنا بالقرآن الكريم وهو حفظه، وعدم حفظ القرآن الكريم وإن لم يكن من أوجه هجره إذا كان عند المرء القدر الذي يعينه على إقامة صلاته، فإنَّ حافظ القرآن الكريم ذو منزلة رفيعة عند الله تعالى، فما أسعد أولئك الذين يحفظون القرآن الكريم في صدورهم! وما أعلى منزلتهم وأعظم شأنهم! فالقرآن الكريم مؤنس لهم في وحشتهم، وجليس لهم في غربتهم، ورفيقهم إلى قبورهم وضيق لحودهم، فهم أهل الله وخاصته، فعن أَنس بن مالك قَال، قال ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ : (إِنَّ لله أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ ؟ قَالَ هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ).
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنّه قال: (إنَّ الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب).
إنّ الناظر إلى واقعنا الحالي وعلاقتنا بالقرآن الكريم حفظًا يجد أننا قد قصرنا كثيراً في هذا الشأن، فأصبح عدد حفظة القرآن الكريم في المجتمعات أسماء محدودة معدودة، وإن كانت تتفاوت من مجتمع إلى آخر، ومما يؤسف له حقًا في حق العرب المسلمين أن حفظة القرآن الكريم من الأعاجم أكثر منهم من العرب، فرغم أنّهم لا ينطقون العربية ولم يتعلموها فإنها لم تقف حجر عثرة في سبيل حفظهم لكتاب ربهم... وللحديث بقية في مقالنا القادم بإذن الله تعالى.
issa808@moe.om