تركيا: الجامعات لا تخرج "مُعلمين" شاورما

د. سيف المعمري

ما يعرفه كثير من الناس عن تركيا الحديثة لا يتعدى أربعة أشياء، هي: اسم و"أردوغان" الذي لا توجد نشرة أخبار إلا وتتضمَّن خبرًا عنه، وعن مواقفه المنتقدة للغرب والنظام السوري، و"المسلسلات التركية" المدبلجة التي جذبت ملايين المشاهدين العرب لمتابعتها خاصة بعد عرض مسلسل "مهند ونور" الذي أذكر أن مجموعة من الطلاب المبتعثين كانوا لا يغادرون مساكنهم إلى جامعاتهم إلا بعد متابعة حلقاته اليومية، وثالث هذه الأشياء "الشاورما" التركية التي تنتشر في كل المدن والشوارع والطرقات الخليجية والعربية والعالمية، ورابع هذه الأشياء مدينة "إسطنبول" التي يذهب إليها كثيرون للسياحة ويعبرون منها المضيق إلى بقية المناطق التركية، ويبدو أن تركيا، وريثة الإمبراطورية العثمانية التي ثار عليها العرب؛ لأنها كانت السبب في "تخلفهم"، وحرمانهم من أدوات "التنوير" خلال الفترة التي سبقت ثورة الشريف حسين بن علي، لا تزال تُمارس الدور نفسه في استعمار بطونهم "بالشاورما" التي أدمن عليها كثيرون، وحين يملؤون بطونهم بها مساءً تتوقف عقولهم عن التفكير ولو قليلا في تركيا التي تقف شامخة بين قارتين وهويتين عربية وغربية.

وكما توقفت عقول أولئك الثوار الذين خرجوا مع الشريف حسين بن علي حين سمعوا عن اتفاقية "سايكس بيكو" التي ضحكت بها القوى الاستعمارية على العرب، واستمرت في نهجها بالتلاعب بالعرب خلال بقية العقود لأنهم لم يتمكنوا من مقاومة من بناء أنفسهم وتقوية اقتصادهم وتعزيز هويتهم، في حين قاومت تركيا -ولا تزال- تلك القوى الاستعمارية التي لم تنسَ لتركيا أنها حكمت خلال فترة الكثير من الإمبراطورية العثمانية كثيرًا من الأراضي الأوروبية، وفي حين يتراجع كل شيء في الوطن العربي من حياة سياسية واقتصادية وتعليمية، تواصل تركيا النمو رغم عدم قبول عضويتها في الاتحاد الأوروبي؛ لذا ستظل تركيا محاطة بعلامات الاستفهام لدينا، ليس فقط لأنها وريثة الإمبراطورية العثمانية ولكن لأنها مع إيران وإسرائيل تمثل ثلاث دول في الشرق الأوسط تمكنت من إرساء حياة ديمقراطية تكفل التداول السلمي للسلطة، علاوة على استنادها إلى قاعدة اقتصادية كبيرة تقوم على التصنيع، وأيضا دورها السياسي القوي في القضايا المتعلقة بالشرق الأوسط، وهذه عوامل القوة هي التي أثارت لديَّ أسئلة عدة حول واقع التعليم في هذه الدولة، هل هو تعليم ينتج "معلمين شاورما"، أم أنه ينتج باحثين وأطباء وتقنيين قادرين على النهوض بالاقتصاد وتعزيز قوة دولتهم؟

لم تشفع 3% من مساحة تركيا التي تقع في منطقة البلقان للانتماء الأوروبي، ولم تجعلها 97% شبيهة بالدول العربية بحكم الجوار مع سوريا والعراق اللتان تغرقان اليوم في الظلام، بدلاً من أن تضاهيها تركيا اليوم وتنافساها في مختلف جوانب الحياة، تركيا التي لا تمتلك نفطا لم يجعلها ذلك ضعيفة اقتصاديا، إنما عملت على بناء العديد من الصناعات من بينها المنسوجات، والأدوات الكهربائية، والسيارات والكيماويات، والجلود. بل إنها تحتل المرتبة الثالثة عالميًا في تصدير المنسوجات بعد ألمانيا وإيطاليا، وهي من أكبر منتجي معدن الكروم في العالم، وهناك قفزات اقتصادية تحققها تركيا لأنها جعلت السياسة في خدمة الاقتصاد، ولم تجعل الاقتصاد في خدمة السياسة، حيث وصلت صادراتها في العام 2012 إلى 152 مليار دولار؛ مما قادها لتحتل المرتبة 17 في قائمة أقوى اقتصاديات العالم حسب الإحصاءات الصادرة عن صندوق البنك الدولي، بل إنَّ النمو الاقتصادي التركي في الربع الأول من هذا العالم كان في المرتبة الأولى متقدما عن السويد ورومانيا اللتان جاءتا ثانيا وثالثاً، ولقد وضع الاتراك هدفا استراتيجيا وهو أن يصبحوا من أقوى الاقتصاديات في العالم مع الاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية في عام 2023، ما الذي ساعد تركيا على النجاح في الوقت الذي أخفق فيه الجيران، رغم امتلاكهم البترول؟ هذا هو السؤال الذي أثرته حول إيران وكوريا الشمالية اللتين عرضت لدور التعليم في صناعة القوة لديهما خلال الأسبوعين الماضيين، فالتعليم ليس فقط بناء عقليات صناعية لكن بناء قلوب مؤمنة بدروها في النهوض ببلدها، والافتخار والاعتزاز بهويتها، خاصة إن وجدت الآخر يحاربها بسبب هذه الهوية.

إنَّ ما استوقفني في التعليم في تركيا التي لا يتجاوز عدد سكانها 76 مليوناً في إحصاءات تعود إلى العام 2015م، تطور التعليم العالي في تركيا، وجعله القاعدة الأساسية لتعزيز تطور وتقدم الاقتصاد التركي، فحالة الرخاء التي يعيشها التعليم العالي تعكس الثقة الكبيرة في التعليم كمحرك للرخاء الاقتصادي، تعليما يفتح فرصا بدلاً من أن يفرض تحديات على الدولة، تعليم يجذب طلابا ويتبناهم بدلاً من أن يقدم له تعليما متدنيًا لا يستثمر قدراتهم، تعليم يؤسس بيئات بحثية بدلا من أن يقدم أماكنَ تمنح شهادات لا يتمتع أصحابها بكفاءات تتيح لهم اجتياز اختبارات التوظيف في تخصصاتهم، تعليم يحل أزمات بدلا من يخلقها؛ لذلك أظهر التقرير الذي أعده مجلس التقييم للتعليم العالي في العالم أن ثمانية جامعات تركية دخلت في ترتيب أفضل مائة جامعة في العالم من حيث التخصصات؛ حيث دخلت جامعة الشرق الأوسط وجامعة إسطنبول التقنية في تخصص هندسة المعادن، وتمكنت جامعة بيلكنت وجامعة كوتش من الدخول ضمن أفضل مائة وخمسين جامعة في العالم في تخصص العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وانضمت جامعة البسفور ضمن أفضل مائتي جامعة في العالم في تخصص هندسة الاتصالات والهندسة الميكانيكية والهندسة الإلكترونية، أما جامعة هاجيتبه وجامعة إسطنبول وجامعة أنقرة فانضمت إلى أفضل 400 جامعة في العالم في تخصص الطب.

ومن أجل تعزيز البحث العلمي، وتطوير الجامعات التركية، والتنافس مع دول العالم في اجتذاب الطلاب من ذوي المواهب والقدرات العلمية، أسَّست تركيا برنامج "المنح التركية" للطلاب الأجانب من أجل تزويدهم بفرص لإكمال دراساتهم العليا، حيث استقبل البرنامج طلبات في العالم الحالي من 182 دولة في العالم، وارتفع عدد المتقدمين للبرنامج إلى 155 ألف طالب أجبني، حيث يحظى الطلاب المقبولون بخدمات التأمين الصحي، وتذاكر الطيران، والإقامة في سكن طلاب حكومي مجاني مع توفير وجبات الأكل وكافة خدمات السكن، ورواتب شهرية تتراوح بين 600 ليرة تركية (نحو 200 دولار أمريكي) لطلاب البكالوريوس، و850 ليرة لطلاب الماجستير، وألف و250 لطلاب الدكتوراه، وأخيرا نحو 2500 ليرة لطلاب البحوث، ويتم التقديم للبرنامج من خلال نظام إلكتروني يعمل بثماني لغات تشمل التركية والعربية والإنجليزية والفرنسية والفارسية والروسية والألبانية والبوسنية، مما يؤكد أن تركيا في طريقها لتصبح مركزا عالميا للتعليم والبحث العلمي، وأنها ستستفيد من العقول المفكرة في العالم في دعم الابتكار والاختراع، وصناعة المعرفة المتجددة؛ مما سينعش اقتصادها الذي ينمو بمعدلات تثير الإعجاب، وتتحول من بلد كان يرسل طلابه للدراسة في الخارج في السابق إلى بلد يستقطب طلابا من كل دول العالم، ويصبح التعليم العالي هو أداة لصناعة القوة والرخاء، بدلا من أن يتحول التعليم إلى سلعة كما هي الحال في دول المنطقة التي يوجد بها مجتمعة ما لا يقل عن 250 كلية وجامعة تستقطب أموالًا باهظة، لكنها لا تساعد في سد احتياجاتها من الموارد البشرية؛ مما يجعل الدول تفتح حدودها ومؤسساتها أمام عمالة أقل كفاءة وتأهيلاً، مما أسهم في تأزم عملية التنمية، وقاد إلى صناعة البطالة في أوساط الشباب، وجعل التعليم العالي عائقا أمام التنمية بدلاً من أن يكون محركا لها، مما يقود الراغبين في التعليم وأصحاب الكفاءات البحثية الراغبون في مواصلة دراساتهم العليا إلى البحث عن منح في دول العالم، لأنهم لا يجدونها في بلدانهم، وأصبح الباحثون من حملة المؤهلات العليا خارج أسوار الجامعات المتعددة، في وقت تستقطب هذه الجامعات والكليات كواردها من الخارج حتى وإن لم تتمتع بأي نقاط أفضلية. ألا يعكس هذا الفارق بين عالمين متجاورين: عالم التعليم العالي في تركيا التي تريد أن تعزز من قوتها وتنمي من اقتصادها، والعالم الآخر الذي يبني تعليما عالياً في شكل مؤسسات استهلاكية، تحول التعليم إلى سلعة بدلا من أن تجعل فرصة مضافة، والمسافة بين كلا العالميين تتسع؛ فالعالم الأول يتجه إلى الأمام ويضخ حيوية بشكل مستمر في مؤسساته، بينما يتجه العالم الآخر للخلف، وتتجمد الدماء في أوردته، وتضعف الآمال في تطويره، وبدلاً من يُطوع التعليم لخدمة الدولة وتوجهاتها، تُطوع الدولة لخدمة هذه المؤسسات بكل سلبياتها.. إنَّها المفارقة التي سوف يستغرب منها الذين يقفون عليها.

تعليق عبر الفيس بوك