ما نوع البذرة؟

عائشة البلوشيَّة

كنتُ أشاهدُ عرضًا ﻹحدى المحاضرات تتحدَّث عن الحرب التي أتت على كل شيء في العراق، خاصة ذلك المخزون المهم جدا لشتى أنواع البذور، والذي كان العراق يمتلكه ويضيف إليه كل جديد؛ فكانت حقبة التسعينيات من القرن العشرين هي الأسوأ على الإطلاق؛ فتدمير ذلك المخزون أتى على أصناف كثيرة من الأشجار التي أصبحت ذكرى، فلو لاحظنا أننا اليوم أصبحنا نذهب إلى المشاتل الزراعية لنشتري ما نريد غَرْسَه من أنواع الأشجار، والتي تكون في أغلب الأحيان عبارة عن ساقٍ لها جذر مُطعَّم بغُصن صغير لنوع النبات الذي نريده، وقد حدث مرة معي فقد ابتعتُ شتلة لنوع من أنواع النبق التفاحي (السدر) كبير الحجم، وبدأتْ في النمو، وأثمرتْ في موسمها الأول ثمرة نبق وكأنها تفاحة خضراء لكِبَر حجمها، وأخذتْ الشجرة في النمو وانتشرتْ الأغصان في كلِّ جهة؛ لذلك قُمتُ بتقليمها حتى تنمو بشكل رأسي، وفوجئت بنوع غريب من ثمار النبق الضئيل جدًّا حجما، القاسي قشورا، المر طعما، فأدركتُ أنَّني قد أتيت على الغصن الوحيد الذي ابتعت الشتلة من أجله؛ فقطعتُ الشجرة كلها، وبدأت في تجربة زراعة بذور الثمار المختلفة؛ حيث تعوَّدنا في طفولتنا أننا عندما نجد نواة الثمرة الناضجة قد شقت وخرج منها برعم صغير جدا، نذهب ونطمرها في الضاحية بالقرب من مجرى الفلج، خاصة بذور الأمبا (المانجو).

وأذكر قبل فترة بسيطة أنني وجدت في بعض ثمار المانجو الفص (نوع صغير جدا من المانجو حلو المذاق لا يتجاوز حجم ثمرة المشمش) نواة قد شق برعمها فسعدت جدًّا، وغرستها في إصيص خاص، وظللتُ أعتني بها وأرعاها، حتى كبرت وخرجت لي شجرة غريبة هي مسخ بين المانجو وشيء آخر، فأوراق الشجرة كأوراق المانجو شكلا، ولكنها أزهرت زهورا بنفسجية اللون كبيرة الحجم، ورائحة أوراقها كئيبة لا تمت للمانجو بصلة، فأدركتُ أنَّ البذور تخرج حاملة جينات الجذر الذي تغذت وارتوت منه؛ فوقع الخوف في داخلي كيف لو ماتت الأشجار بسبب مرض أو عطش، فمن أين لمزارعي العالم ببذور حقيقية يحرثونها!

كلُّ شيء في هذه الحياة يبدأ ببذرة، ويكون لخصوبة الأرض دور كبير في نمو تلك البذرة، ولكن هنالك عوامل تساعد في نمو تلك البذرة لتتطور، وتصبح برعما فشتلة، فشجيرة، فشجرة مورقة. والعناية بهذه البذرة بالسقيا والاهتمام له دور محوري، فتورق وتزهر ثم تثمر، وهنا ينطبق الحال على البذرة الطيبة والبذرة الخبيثة، وهذا ينطبق على كل شيء حولنا، فحتى الكلمة شبَّهها الله بالشجرة في القرآن الكريم، وجاء التشبيه على النوعيْن: الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، وترك لنا نحن البشر اختيارَ البذور التي نبذرها في صدورنا، وفي قلوب الآخرين؛ وذلك بعد أن أوضح لنا سبحانه الفارق بين الكلمتين والآثار المترتبة عليهما، ولكن اليوم نجد أن الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي حملت الغث من البذور ﻷشجار خبيثة تحمل روائح نتنة من الفتن الكثيرة، وللأسف فإن زارعيها قد تزيَّنوا بالاخضرار والزهور البراقة الألوان، ليجتذبوا صغار العقول وضعاف القلوب، وهنا يأتي دور المخزون الحقيقي للبذور الطيبة في كل مجتمع ولكل بيت، ليتم البذار في مواسم الزرع، والاعتناء بها وتقوية عودها ضد هجمات الحر.

ومع إطلالة شهر الرحمة، نبدأ تنسُّم نفحات السماحة والخير، ويبدأ مؤشر الروحانيات في الارتفاع مجددا كلما دَنَا مِنَّا، ونظل مُترقبين لهلاله الجميل، لندخل في سبحات لحظاته المعطرة بالخير والتراحم، وكم من عاشق للخير يقول ليته يطول ﻷكثر من شهر، ولكنه لو كان كذلك لما زرع بذور شوقه فينا بهذا العمق، نعد العدة لهذا الضيف، فنبذل قصارى جهدنا لنزرع السعادة والحبور والإنسانية على جميع الدوائر المحيطة بنا، وذلك في رغبة صادقة منا لنكرم هذا الضيف السنوي، تتبدَّل النفوس فيه إلى النسخة الإنسانية الأجمل منا، فتصبح مرجعية كل أمر إلى السماحة والتسامح، وإن لم يكن كل أمر سيكون الأغلب من الأمور، فتتناثر الخيام على الطرق العامة وبين الحارات لتقديم وجبة الإفطار، وتنشط الجمعيات الخيرية في إعداد السلال الرمضانية، ويتم توزيعها بحُبٍّ لكل من تصل إليهم داخل السلطنة وخارجها، حتى من هم من ديانات أخرى غير الإسلام، أصبحوا ينتظرون الشهر الكريم ﻷنهم سيستمتعون بمعنى الإنسانية الرائعة، على جميع الأصعدة المعنوية والمادية

شهر كريم يمُدنا بالسكينة بسخاء عجيب، فتنتشر الأنوار الروحانية في الصدور والأجواء، ورغم تجربتنا السنوية لهذا المَدَد الإلهي الجميل، ونسائمه الربانية علينا لمدة 29 ليلة استثنائية، أجد الغرابة وأتساءل: لماذا لا تصبح أيام عمرنا مليئة بهذا الشعور؟ لِمَ لا نعود إلى أبجديات الأخلاق ونتعامل بها؟ لماذا أصبحنا نتوجَّس خيفة من النوايا التي لا نعلمها؟ لماذا أصبحنا نشك في ظاهر القول والفعل؟ لماذا لا نُكرِّر نجاحَ تجربتنا الأثيرية التي نعيشها في شهر رمضان وننسخها في كل يوم من أيام عمرنا؟! لماذا لا يكون رمضان هذا العام عام بذار لبقية الأعوام؟ ننمِّي فيه بذور التراحم ونحتفظ بالبقية في سنبله لنبذر كلما نفد منا المحصول؛ فهذا شهر خصيب مليء بالطاقات الروحانية الخضراء الرائعة، لنُحسن ضيافته ولنحرث أرضه ليُثمر حُسنَ ظنٍّ بالله وبكل ما حولنا طوال العام.

والخلاصة.. أننا من يُحدِّد نوع البذرة التي نُريد حصاد ثمارها طوال حيواتنا، فإما أن تكون أصيلة تحمل الجينات الأصيلة، أو دخيلة تشوه حصاد أيامنا، فلنعمر نفوسنا بالخير والسلام.. فرمضان كريم والله تعالى أكرم، وكل عام والإنسانية بألف خير.

---------------------------

توقيع:

قال الشاعر الشيرازي:

"بكتْ عيني غداة البين دمعا...وأخرى بالبكا بخلت علينا

فعاقبت التي بالدمع ضنت... بأن أغمضتها يوم التقينا".

تعليق عبر الفيس بوك