حمد العلوي
إنَّ المتتبع لخُطى النهضة العُمانية المباركة، يتذكَّر بكل فخر النطق السامي لجلالة القائد المعظم -حفظه الله ورعاه- يوم قال مقولته الشهيرة: "سنعلِّم أبناءنا حتى ولو تحت ظل الشجر"؛ ذلك عندما تولى زمام الأمور في الوطن عام 1970م، فقد وجد شعباً عريقاً قويًّا محبًّا للعمل، وقد أنهكه الجهل والتخلف والفرقة، لأنه ظل يغطُّ في ظلام دامس لعقود طويلة، فيومها رأى جلالته -أعزَّه الله- أنَّ عليه أن يرسم خطوات النهضة ببصيرة وحكمة، بعدما علم يقيناً، أن ليس من شيء أمضى في التقدم من العلم والمعرفة، فالعلم هو المصباح الذي سينير الطريق للرقي والتقدم، وسينتشل الأمة من سبات عظيم أعاق مسيرتها الحضارية، وأوقف نموها يوم تسمَّرت في مكانها بلا حراك لسنوات كُثر، وسكنت عالم آخر من القرون الوسطى، وقد كان العالم يتقدم من حولها بلا توقف.
إذن، كان تركيز القائد على التعليم قبل كل شيء، لأنه الوسيلة الأجدر في محاربة عدو البشرية الشرس، ألا وهو الجهل والأمية، فأجَّل بناء المساجد، وبناء الجامعات، وبناء المحاكم، وكذلك بناء مجالس التشريع إلى مرحلة لاحقة، لأن الأهم يسبقُ المهم، وهكذا كانت حال الوطن ورشة عمل بلا توقف ولا كلل.
لقد قطعت عُمان المسافات الطويلة في سباقها مع الزمن، وكسبت هذا السباق بفضل حكمة ورؤية قائدها الفذ المعظم، وأصبحت دولة عصرية مكتملة أركان البناء الأساسي، بكل فخر وشموخ واعتزاز، وبالطبع ليس هذا نهاية المطاف، ولكن سيظل التقدم مستمراً، والبناء لن يتوقف حتى قيام الساعة، ولكن حريٌّ بنا كعمانيين، أن نرفع أكفّ الدعاء لله شكراً على هذه النعم الكثيرة التي غمرت عُمان، وأهمها الأمن والأمان، والعدل والإحسان، والسكينة والإستقرار، وذلك لمن سكنها بلا جور ولا طغيان.
وإذ احتُفل يوم أمس، تحت رعاية سماحة المفتي العام للسلطنة، بافتتاح قصر العدل لتسكنه أم المحاكم "المحكمة العليا"، بجوار قباب جامع السلطان قابوس الأكبر، إنما بذلك ترفع عُمان أكبر لآلئها القيمة على ذرى تاج النهضة القابوسية العظيمة والمجد، ولتكون حارساً للعدالة وحقوق الناس، وراعية للنهضة ومنجزاتها الكثيرة، فلا نعاس عن الواجب، ولا بخس لأحد من بني الإنسان، ولما كان العدل أساس الملك، فقد كانت عين جلالة السلطان المعظم -أعزَّه الله وأيده بالتوفيق والسداد- لا تغفل عن توفير الإحاطة والرعاية السامية لمرفق القضاء، وقد كلف الجهات المعنية، بأن يكون بناء قصر العدل الشامخ، بجوار جامع السلطان قابوس الأكبر، وذلك لقوة يقينه الأكيد بأنَّ الدين والإيمان، والعدل والاحسان، سيَّان لا ينفصلان، ولأن العدل كان قد انطلق من مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذلك في بداياته الأولى، فنهجُ الشرعُ والعدل ليس له قدوة إلا كتاب الله وسنة رسوله.
... إنَّ الناظر بإمعان إلى بناء مقر المحكمة العليا، وبناء جامع السلطان قابوس الأكبر، وبناء مجلس عُمان في البستان، إنما النهج يتكرَّر بسياق واحد، والمعنى هو علو الشأن المقام، وهو أمر لا يخلو من رمزية مهمة؛ إذن هذا التشابه ليس في نمط البناء وحسب، وإنما في الجوهر والقلب، وأجزم القول بأن جلالة السلطان يدرك أهمية الاشياء بعمقها الإنساني والمعنوي، لذلك لا يُفوّت الفرصة دون استخدام الرمزية، وهو يضع حجر الأساس لكل استحداث في هذا العصر، وإنما هناك رابط يربطه بعمق مع التاريخ العريق للوطن، وسلطنة عُمان التي يُظهر التاريخ أنها تقف على تراكم طويل من سنيِّ عمرها، ذلك الذي يُحسب بالألوف العشرية من السنين الماضية، كدولة مستقرة في عمق زمني أزلي أصيل، ستظل كذلك بدعاء نبي الله لها بأن تنعم بحماية رب العالمين إلى يوم الدين.
إذن؛ من يُحدِّد نهج العمارة في عُمان، هو تاريخها العظيم، وقارؤه بحكمة وفهم جلالة السلطان، فيُروي نهضة العصر بماء المجد التاريخي الغزير، فتزهر عُمان التاريخ، بثمارها في العصر الجديد، فتحدِّث من يغفل عن تاريخها، بالقول: إنَّنا العلم والمعرفة والكرامة وسماحة القلب والنفس، وإننا لدينا لمن يرغب المزيد، فليطمئن من به وجل على عُمان، إن من له عنوان إقامة كعمان، لن يخطئ الطريق أبداً، وطريق الحق والاستقامة هما البيان الأمجد، فمهما هبَّت رياح بلا هوادة في المحيط، سيكسرها شموخ الجبال في عُمان، وهي عنوان لشموخ الإنسان، وإن عمق البحار والمحيطات المرسغة لسواحل عُمان، إنما تحكي للكون كله عُمقَ وغزارة الدين والعدل في نفوس كل إنسان، ينتمي لأرض عُمان، وإنونشر العدل بين العباد بالقسطاس والميزان، ذلك من خصائص الإنسان في عُمان والزمان والمكان.. حفظ الله عُمان وجلالة السلطان.