فلنجعل من التقشف منحة لا محنة

علي المعشني

يُحدِّثني أحدُ الأصدقاء عن موقف غريب صادفه أثناء زيارته لأحد أقاربه العاملين في سويسرا؛ حيث قال: لفت نظري في المنزل المقابل لسكن قريبي أنَّ شخصًا يخرج صباح كل يوم مرتديًا ثيابًا أنيقة للغاية وراكبًا لدراجة هوائية!! ويعود بعد العصر بنفس الطريقة. يقول صديقي دفعني الفضول لاعتراضه ذات يوم فقط ليخبرني عن سر الأناقة والمنزل الفخم والدراجة الهوائية! فيقول ضحك لي ثم دعاني لألقي نظرة على فناء منزله الفاخر، وما أدهشني هو وجود أربع سيارات فارهة في مرآب المنزل!! فسألته: لماذا تستخدم الدراجة الهوائية وتترك سياراتك؟! فأجابني بأنه مدير عام لشركة يمتلكها، وأنَّ الدراجة رياضة ومتعة له في أجواء جنيف، ثم قال الأهم وهو أن بلاده مستوردة للنفط، وإذا ساهم كل مواطن في هذه المسؤولية على طريقته الخاصة، فسنوفر لبلادنا المليارات من الدولارات سنويًّا، والتي ستتوجه للتنمية ورفاهية المواطن؛ لهذا لا أستخدم أيًّا من سياراتي إلا في العطل الأسبوعية والإجازات الطويلة، وهذا سلوك أغلب المواطنين السويسريين إن لم يكن جميعهم، خاصة بعد أن تعلمنا كثيرًا من درس قطع النفط العربي عام 1973م.

الحقيقة أنَّ هذه القصة دائمًا ما أستحضرها حين أتحدث عن أهمية إشراك المواطن في المسؤولية الوطنية والتنمية الوطنية والتخطيط، إذا أردنا النهوض الحقيقي للدولة واستنهاض القوى الخفية للمواطن، والذي لا يُنظر إليه في الغالب سوى نظرة القاصر والمُستهلك والشريك في الأزمات فقط، يُضاف إلى ذلك أهمية الشفافية كي تتجسر فجوة الثقة بين المواطن والحكومة ويشعر بكل يقين بأنَّ كلَّ خطوة يخطوها نحو وطنه بشكل فردي مقدرة وسيظهر أثرها ونتيجتها بكل تأكيد على المجتمع.

اليوم.. تعيشُ سلطنتنا الحبيبة أزمة مالية خانقة وغير مسبوقة، باغتتنا كما باغتت جميع الأقطار ذات الاقتصاد الريعي أحادي الدخل كالنفط، وليس من العقل أو الحكمة اجترار (لو) وأخواتها لأنها من عمل الشيطان؛ فالأزمة أصبحت قضية رأي عام ومتاحة للجميع وبلا غموض أو تورية ونعيش تفاصيلها كل يوم.

وبما أنَّ عصب الأزمة هو النفط، فحريٌّ بنا التفكير والسعي الجاد لتقليل استهلاكه والحد من الإنفاق العام عبر ممارسة وتطبيق سياسة تقشف حكيمة وذكية تتوزع مسؤولياتها ومهامها على الجميع دون استثناء، وعلينا التحرر من التفكير داخل الصندوق الموروث، والذي جعلنا نعبُد ونقدِّس ما كتبناه وشرعناه من قوانين وإجراءات في أعوام الرخاء والاسترخاء؛ كون الظرف الذي نعيشه ظرفا استثنائيا ويحتاج منا إلى تفكير وخطوات استثنائية وغير تقليدية على الإطلاق؛ فهذه الأزمة تهدد بفناء الدولة الريعية ودولة الرعاية الاجتماعية لخطورتها.

فبلغة الأرقام التي لا تُخطئ:

- بلغ حجم الرواتب في القطاعين المدني والعسكري 6 مليارات ريال عُماني سنويًا؛ أي مايقارب الـ50% من الموازنة السنوية للدولة.

- الطاقة الكهربائية قفزت من 2 ميجاوات عام 1970م إلى 5200 ميجاوات اليوم، وفي طريقها لتصل إلى 16 ألف ميجاوات عام 2030م، وفق الخطة (2014-2030)، جميعها تعمل بالطاقة النفطية عدا نسبة 10% تعمل بالطاقة المتجددة من شمس ورياح، والتي يخطط أن تصل إلى 3 آلاف ميجاوات في نهاية الخطة، عدد المشتركين في خدمات الكهرباء يفوق المليون مشترك وبنسبة زيادة سنوية تعادل 12%.

- مشتركو المياه يفوقون الـ341 ألف مشترك وبنسبة زيادة 8% سنويًّا.

- نسبة استهلاك السوق المحلية من النفط ومشتقاته 200 ألف برميل يوميًّا أي ما يعادل 10% من الإنتاج الكلي، وبسعر يتراوح ما بين 30-45 دولارا، ومرشح للزيادة.

هذه الأرقام تضعنا أمام تحدٍّ حقيقي اليوم للحد من استهلاك النفط قدر الإمكان وقبل التفكير في بدائل النفط والمشروعات العملاقة ودخولها المرجوة والمأمولة.

فمن الملاحظ أنَّ التوسع العمراني الهائل يستنزف النصيب الأكبر من الطاقة الكهربائية (أي المحروقات) وبمقابل عائد لا يُذكر؛ الأمر الذي دفع أحد الخبراء الاقتصاديين العرب إلى تحذير أقطار الخليج من الإسراف في الطاقة عبر استنزافها في التوسعات العمرانية العشوائية وغير المدروسة بعناية؛ الأمر الذي سيجبر هذه الأقطار على استهلاك كل ماتنتجه من نفط للطاقة الكهربائية فقط عام 2030م واستيراد نفوط خارجية لتغطية حاجاتها الأخرى التنموية والصناعية.

المواطن بطبيعة الحال لا يفهم الكثيرَ من هذه المصطلحات الفنية، كما لا يعي حجم المخاطر من حوله وحدود مسؤوليتة فيها، وفوق هذا فالكل يُفتي ويجتهد ويخوض ويتحدث في تجل واضح لأعراض منطق التعبئة اليوم والذي تجاوز منطق الصمت بعد عام 2011م وماتخلله وتلاه من تداعيات.

ولكن المطلوب اليوم هو إشراك المواطن في الحلول وتوعيته بأهمية الظرف وأهمية دوره كذلك كونه الهدف والمحور للتنمية بمفهومها الشامل، وتأتي على رأس هذه الأولويات أهمية إحلال ثقافات العناية والتوفير وروح المسؤولية كبديل عن ثقافات الهدر والاستهلاك المُفرط وعدم الشعور بقيمة النعم إلا بعد فقدها وعلى الحكومة أن تكون قدوة حسنة بحق للمواطن في كل شيء ترغب في ترسيخه وتمريره. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أتذكر -قبل أعوام- اطلاعي على منشور توعوي لإحدى الشركات العُمانية العاملة في قطاع الكهرباء، مُحدد فيه قيمة استهلاك كل وحدة كهربائية في المنزل بالساعة واليوم والشهر، أي يمكن للمواطن الواعي تقنين استهلاكه من الكهرباء، بل والتحكم في قيمة فاتورته الشهرية بكل دقة. ومن الأشياء التي مازلت أذكرها في المنشور، أن الإضاءة الطولية الواحدة (تيوب ليت) تستهلك 75 بيسة في الشهر، في حال بقيت مُضاءة متواصلة لشهر كامل. أي لو افترضنا أن مليون مشترك استغنوا عن إضاءة واحدة فقط لمدة شهر لوفرنا مبلغ 75 ألف ريال شهريًّا، ناهيك عن الغسالات والمكيفات والسخانات...وغيرها من الأدوات الكهربائية المنزلية والتي تستنزف طاقة هائلة دون وعي منا بأهمية الترشيد والتقنين وأثر ذلك على الصعيدين الشخصي والعام. كما أنَّ العازل الحراري على أسطح المباني يوفر الطاقة خاصة التكييف، وتغليف أنابيب المياه بطبقة عازلة لحمايتها من أشعة الشمس المباشرة يوفر الكثير من الماء، خاصة حين تشتد درجات الحرارة وتضطر الناس إلى التخلص من الماء الساخن بفعل حرارة الشمس في الأنابيب. كما أنَّ وعي البعض اليوم دفعهم إلى استغلال مياه الغسيل اليومي الخالي من الزيوت والكيماويات عبر حفظها في خزان أرضي لتدويرها واستغلالها لسقي الأشجار والحدائق المنزلية، وكذلك مياه التقطير للمكيفات عبر ربطها بشبكة أنابيب صغير واستخدامها لسقي الشجيرات والزهور في المنازل، ناهيك عن خيارات أنواع الزراعات الحديثة ومنظومات الري الذكية.

والمراد من هذا الأمثال البسيطة هو ضرورة مخاطبة الناس بطريقة مبسطة ومفهومة لإحلال ثقافات بديلة في زمن التقشف تجعل من هذا الظرف الطارئ منحة وليس محنة، بدلًا من اللغة الفنية والخطاب العام الخشبي لأهمية ترشيد الإنفاق دون تفاصيل أو أمثلة ذكية ومؤثرة. سيقول أحدهم إنَّ ترشيد استهلاك الكهرباء سيحرم الدولة من دخل مهم لهذا القطاع وهنا ندخل في سجال أيهما أسبق البيضة أم الدجاجة؟! فنحن هنا نخوض في أولويات في زمن مفصلي لن ينتظرنا كثيرًا حتى نحدد خياراتنا، فطالما نحن أبناء اقتصاد ريعي علينا أن نسلم بأننا كلما وفرنا من استهلاك النفط محليًا، كسبنا المزيد من الموارد المالية والعملة الصعبة والعكس صحيح. وبطبيعة الحال، لا يقتصر الأمر على ترشيد استهلاك المواطن وتغيير أنماط ثقافاته لعبور الأزمة فهذا جزء من الحل، أما الجزء الأكبر من الحل فيقع على كاهل الحكومة في ضرورة السعي الجاد لتقليل إنفاقها عبر الوحدات الحكومية بتقليص ساعات الدوام وإستهلاك المحروقات والخدمات، ومراجعة جميع أوجه الإنفاق المسببة للهدر المنظم وغير المرئي كالمؤتمرات والندوات والمظاهر الاحتفالية والتدريب وضبط حركة المركبات الحكومية إلى الحد الأدنى، وكذلك تنظيم أوقات إضاءة أعمدة الإنارة في الطرقات، وهذا عبر طرح الحكومة لخطة وسقف زمني للتقشف وكخطة طوارئ لتجاوز الأزمة.

والحقيقة أنَّ ما نعانيه في سلطنتنا الحبيبة هو أزمة فكر لا أزمة موارد؛ فالنمط الاستهلاكي المُفرط الذي اختطفنا من واقعنا وإمكاناتنا الحقيقية وموروثنا، وقبل ذلك حاجاتنا الطبيعية من كل شيء نستهلكه حولنا، وجعلنا نصاب بداء التواطؤ الاجتماعي هذا الداء الذي رسخ التقليد الأعمى فينا وقتل المبادرات والقناعات الفردية وجعل الفرد كترس في عجلة المجتمع فقط لا حيلة له ولا قبول ما لم يمتثل لخط سير المجتمع رغم الأخطاء الجسيمة فيه، فكلنا يردد عبارة: "نعم خطأ ولكن جميع الناس يفعلون ذلك" لتمرير وتبرير خطأه الشخصي تجاه أسرته ونفسه ومجتمعه، ولم يقتصر الداء على الفرد والمجتمع بل تعداهما ليصل للحكومة والتي تردد في المقابل عبارتي "جرت العادة، ولم تجر العادة" لتمرير قناعاتها أو الإحجام عن خوض الجديد وغير المألوف.

وبطبيعة الحال، فإنَّ المثقف والكاتب الحقيقي لا يهتم بما يهتم به الناس على اعتبار أن اهتمامات الناس غالبًا ليست بالضرورة صحيحة ومهمة، كما أنَّ اتباعه للناس يعني فقده لحاسة النقد والتغيير الإيجابي والعين الثالثة التي يرى بها ما لا يراه عموم الناس، وسيصاب بداء التواطؤ الاجتماعي وأعراضه، وهنا تكون مصيبته مُركبة حيث ستختل رسالته في الحياة. حين ألتقي -بين وقت وآخر- بأشقاء من أقطار عانت من حروب واحتلالات وحصارات اقتصادية، ونتناول الحديث عن حياة الاستهلاك والبدائل في تلك المحن، أجدهم جميعهم يتفقون على أنهم عاشوا تلك المحن وتجاوزوها بأقل القليل من أنماط المعيشة، وتبين لهم مدى الهدر وحجم الإسراف في سنوات رخائهم من مال وغذاء وكساء ودواء، كما لمسوا أهمية المبادرة ونجاعة ادخار القرش الأبيض لليوم الأسود. لهذا؛ نقول فلنجعل من المحنة منحة للإجهاز على سلبياتنا.

------------------------

قبل اللقاء: "ما لم يكن همك على الوطن، فأنت هم على الوطن".. وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك