د. عبدالله عبدالرزاق باحجاج
هناك اتفاق عام في بلادنا على ضرورة الاصلاح الاقتصادي العاجل بعد ما هزّت الأزمة النفطية مجددًا أوضاعنا المالية بصورة غير مسبوقة، فبلد كسلطنة عمان، محكوم عليها أنّ تظل دولة قوية في كل المجالات، والاقتصاد خاصة، لعدة اعتبارات - لن يتسع المجال هنا لذكرها، ولن يتأتى لها أن تظل قوية اقتصاديا أذا ما ظلت تعتمد على النفط كمصدر وحيد لدخلها القومي، من هنا يتولد الإجماع على ضرورات الاصلاح الاقتصادي، لكنه مشروط بالشمولية، بمعنى أن يشمل البنى الفوقية والتحتية لدواعي النقلة النوعية والكمية في إطار الزمنية المقبولة، ونجاحاته مضمونة، لتوفر الإرادتين السياسية والاجتماعية في بلد لديها الكثير من المقومات والإمكانيات الاقتصادية التي لم تستغل، فمثلا، عند افتتاح ميناءصلالة للحاويات عام1998، بشرنا خبير عالمي في ميدان الافتتاح، بأننا سنصبح هونج كونج ثانية أو سنغافورة أخرى في المنطقة، ولما التقينا به مؤخرا، وسألناه عن توقعاته، أجاب قائلا، (سائلوا أو اسألوا) حكومتكم؟ قد اختلطت علينا المفردتين، وكلاهما تناسبان المقام.
هذا يحدد لنا ماهية الإصلاح ونطاقاته، صحيح هو اقتصادي - أطر وكوادر وسياسات واستراتيجيات - لكن، لا يمكننا أن نحقق هذا الإصلاح بمعزل عن الاصلاح العام أو على الأقل الانفتاح بالقدر الذي يتوقف عليه بالضرورة الاصلاح الاقتصادي، إذن، من ينبغي أن يقود عملية الاصلاح الاقتصادي، السياسة أم الاقتصاد؟ وكيف نسلم الإدارة الاقتصادية قضية الاصلاح الاقتصادي وهي المتهمة بالفشل؟ كيف نسلمها وهناك مساحة كبيرة من عدم الثقة بينها وبين المجتمع، وهي في تصاعد، وهى ليست وليدة اليوم، وإنما تاريخية، هنا الإشكال الذي سوف يقودنا إلى اكتشاف الرؤية الغائبة التي ينبغي استنطاقها بصوت مرتفع بعد اكتشافها للزوم الاصلاح نفسه بعد ان توفرت إرادته السياسية، وقبوله الاجتماعي، وهذا التلاقي شرط أساسي لنجاح أية عملية إصلاحية في أي بلد، وقد توفرت في بلادنا، لكن مشكلتنا تكون دائما في التنفيذ، فأحيانا نختار تنفيذيين لهم مصالح عميقة في الدولة، أو نستعين بتكنوقراطيين ينقصهم الذكاء الاجتماعي أو خبراء أجانب ينتمون لمؤسسات عالمية مشبوهة، ونحملهم مسؤولية وضع الرؤى وتنفيذها دون أية رقابة أو محاسبة أو تقييم وتقويم مرحلي حتى نتفاجأ في النهاية بالنتائج غير المتوقعة.
البحث عن الرؤية الغائبة.. في استراتيجية التنمية السابقة
تمتاز بلادنا، وتنفرد دون غيرها إقليميًا، بالرؤى الإستراتيجية التي تضعها طوال مسيرتها التنموية، وهى عبارة عن صور ذهنية لما ينبغي أن تكون عليه بلادنا مستقبلا في آجال زمنية محددة، فهناك الروية 2020 التي ستنتهي قريبا، وهى يفترض أن تكون قد صنعت لنا القوة الاقتصادية المخططة، ورؤية 2040 المقبلة، ويفترض أن تعزز القوة المتحققة، وقد تبنت بلادنا لتنفيذ تلك الرؤى مسارين قصير المدي، يتمثل في الموازنة العامة للدولة، ومتوسط المدى، يكمن في الخطة الخمسية التي مدتها خمس سنوات، فلماذا لم تحقق بلادنا القوة الاقتصادية المخططة منذ عدة عقود؟ بدليل، استمرار اعتمادنا على النفط بنسبة (85%) وبدليل أن (30%) فقط المتحقق من أهداف الخطة الخمسية الثامنة (2011-2015) وهي نسبة دون مستوى القبول كثيرًا، لا يمكن قبول مبرر تفجر الأزمة النفطية، فهي قد اندلعت في منتصف عام 2014، فماذا عن الثلاث السنوات ونصف السنة التي قبلها؟ فهل بحثنا في أسباب عدم تحقيق الأهداف بنسب أعلى؟ وهل يفترض الاستمرار بنفس الأطر والكوادر والميكانزمات التي انتجت لنا ذلك، ونطالبها الآن يتحمل مسؤولية تحقيق الأهداف؟ القضية إذا كنا صادقين مع الوطن في مرحلته التاريخية الراهنة، علينا أن نطرح تلك التساؤلات على أنفسنا وبتلك الكيفية دون مجاملات أو محسوبيات أو علاقات شخصية، لربما نكتشف فيها أو بعضها الإخلال الذي يؤدي إلى عدم تحقيق الأهداف بالصورة المرجوة، دول مجاورة لنا تمكنت من خلال رؤى وخطط مماثلة من تحرير اقتصادها من تبعية النفط، بحيث لم يشكل في موازنتها السنوية سوى (5%) فقط، ودول أخرى حددت عام 2020 كحد أعلى لصناعة اقتصاد دون النفط، أي بعد أربع سنوات فقط، وبلادنا طوال ربع قرن لم تتمكن سوى تحقيق (15%) فقط من مصادر بديلة؟ ماذا ينبغي أن يعني لنا ذلك؟
صورة المجتمع الجديد.. في ظل السياسات المالية الراهنة
ما هي الصورة التي نريد أن يكون عليها المجتمع العماني بعد خمس سنوات مقبلة؟ والتساؤل يستشرف المستقبل من منظور متوسط المدى في ضوء مجموعة سياسات وإجراءات حكومية - متخذة وأخرى مقبلة - لمواجهة تداعيات الأزمة النفطية، وهي حلول ذات صبغة مالية خالصة وليست اقتصادية، ونستحضر بعضها مثل، تجميد المرتبات، وعدم الترقيات، ووقف التوظيف، ورفع سوم وضرائب على الخدمات والسلع، وتخفيض المرتبات ورفع الدعم عن بعض الخدمات الأساسية خاصة الكهرباء والماء بعد نجاح رفع الدعم عن الوقود، وزيادة متصاعدة للرسوم.. من هذه الإجراءات والسياسات المالية، يستمد طرح التساؤل مشروعيته، فأي مجتمع سيتم صناعته من خلال تلك السياسات والإجراءات المالية الضاغطة على كل فرد من أفراد المجتمع؟ وتلك السياسات والإجراءات المالية تعد قفزة فوق المستقبل الاجتماعي الذي يتم تأسيسه منذ (45) عامًا، فهل هناك متابعة سياسية؟ وهل هناك تقييم وتحليل مستقل لتداعياتها الاجتماعية؟ ربما علينا أن نتحكم للأرقام حتى نقنع الفكر السياسي بالتداعيات والمآلات الاجتماعية المقبلة، أولا: القطاع الخاص، هناك (60) ألفا و(882) عاملا يتلقون مرتبات ما بين (325) ريالا و(400) ريال، كما أنّ هناك (42) ألفا و(709) موظفين يتقاضون ما بين (401) و(500) ريال، فيما بلغ عدد العمانيين الذين يتقاضون رواتب أساسية بين (601) ريال و(100) ريال (34) ألفا و(541) موظفا، ومن (1000) ريال إلى (2000) ريال أكثر من (18) موظفا، وهذا كله حتى نهاية شهر سبتمبر 2015، فكيف بالوضع المالي للمتقاعدين في القطاع الخاص؟ ثانيا: الضمان الاجتماعي: وقد وصل عدد حالات الضمان الاجتماعي المسجلة خلال الربع الأخير من العام 2015 حوالي 84644 ) وكشفت دراسة رسمية بأنّ معاش الضمان الاجتماعي لا يلبي احتياجات (93%) من الأسر المعتمدة عليه في تأمين وسيلة المعيشة المناسبة رغم الزيادات في المعاشات، فهل سيتحملون أعباء مالية إضافية جديدة؟ ثالثا: القطاع الحكومي، فقد بلغ عدد المتقاعدين فيه (44،667) متقاعدا بنهاية عام 2915، أغلبهم لبلوغهم سن القانوني للتقاعد، بزيادة سنوية بلغت (7%) عن العام 2014، وهذا يعكس لنا حجم التقاعد السنوي للموظفين الذين يمثلون الجيل القديم والطبقة الوسطى، بينما يبلغ عدد موظفي الدولة في هذا القطاع ما يقارب (180) ألف موظف وموظفة، ومنهم تتشكل غالبية الطبقة الوسطى.. سنكتفي بتلك المؤشرات، فهل تعطينا الصورة المجتمعة المستقبلية؟ دون شك ترفع من وتيرة القلق على مثل تلك الشرائح الاجتماعية، وهنا لابد من استحضار سيناريو التفقير، كما لابد من استحضار سيناريو انكماش الطبقة الوسطى، وهي الطبقة - كما قلنا في مقالنا السابق- التي يعول عليها الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وهى التي تحمل هم الدين والتاريخ ومنظومة العادات والتقاليد، أي هى صمام أماننا الأول. فهل سيتحمّل الشأن الداخلي لأيّة دولة تلاشي الطبقة الوسطى؟ ستجد أيّة دولة نفسها عندئذ أمامها طبقتين وليس ثلاث، الدنيا والعليا، ولنا تصور شكل الاستقرار والأمن في حالة تلاشي الطبقة الوسطى، إذن، كيف نحافظ على الطبقة الوسطى في بلادنا التي عملت سلطتنا السياسية طوال العقود الماضية على تعزيزها واتساعها وفتح المجالات أمامها للانتقال للطبقة العليا؟ ووراء ذلك ذكاء سياسي بأهمية أن تكون هذه الطبقة هي الأكثر عددا، وأن تكون الدينامكية متاحة للانتقال من الدنيا للمتوسطة الى العليا، وفي حالات كثيرة تدفع الدولة بالمواطنين دفعا إلى هذه الديناميكات المتجددة.
الخاتمة: الضرورات الوطنية.. وحتمياتها العاجلة .
الاعتراف بأنّ صناعة مستقبلنا من المنظور الاقتصادي والمالي، سيحمل معه كل مكوّنات الدولة - سلبا أم أيجابا - أمّا الحفاظ على مكتسبات الدولة التاريخية أم التحول عنها، والاعتراف كذلك، بأن المسير المستجد سوف يصنع لنا مجتمعا غير مخطط له.. من هنا فمن الخطأ أن تستفرد النخب الاقتصادية الحكومية وحتى التكنوقراطية لوحدها بوضع السياسات والإجراءات المالية، فنتائجها المحتملة قد حاولنا استشرافها مسبقا، فلابد من الإدارة السياسية لهذه المرحلة بواسطة حكومة تكنوقراطية مصغرة، يكون من أهم شروط أهليتها الذكاء الاجتماعي حتى تعتد بالحمولة الاجتماعية للدولة العمانية المعاصرة/ والحضارية، وتكون منوطة بمهام التنوع الاقتصادي، كما هو وارد في خطة التنمية التاسعة - خمس قطاعات - فهذه الخطة صالحة للمرحلة بعد إعادة تقييمها، وتتحمل مسؤولية نجاحها وفشلها، بدلا من الاستمرار بجهاز بيروقراطي كبيرا، ومترهل جدا، ومتضارب الصلاحيات، ومتداخل السلطات، كما أنه لابد من اتخاذ المنهج العلمي وسيلة لتحقيق الأهداف ومتابعتها، وهذا يستلزم إنشاء وحدة المتابعة وتقييم الآداء ذات صفة مستقلة تكون تابعة للمؤسسة السلطانية حتى يتم تفعيل صلاحيات مجلس الشورى، وكذلك إنشاء آلية مستدامة لمراقبة تنفيذ السياسات والإجراءات.. حتى لا نتفاجأ في نهاية الرؤى الإستراتيجية والخطط بالفشل..!.