عبيدلي العبيدلي
على مدى يومين، هما 18 و19 مايو تحلق في البحرين مجموعة من الباحثين في مجال التمكين الرقمي في قطاع التعليم. توافدوا من أوروبا، والولايات المتحدة، وشرق آسيا ليلتقوا بأقرانهم من منطقة الخليج، بما فيها البحرين كي يتبادلوا المعرفة والخبرة في هذا المجال، مركزين على التجربة البحرينية في هذا القطاع. منصة فكرية متخصصة تلاقحت فيها الأفكار التربوية الممزوجة بنكهة رقمية وفرها لهم مؤتمر مُستقبل التعليم الرقمي في الخليج "GEFT".
انكب هذا الرهط من علماء وخبراء على أوراقهم كي يحوصلوا ما بين أيديهم، ويخرجوا، من خلال التشارك المعرفي رؤية بحرينية تؤسس لفهم مستقبلي للتمكين في مجال التربية والتعليم. رغم أهمية الموضوع، وغزارة المادة العلمية، واتساع نطاقها التربوي، لكنها لا تستطيع منع من يشارك في"GEFT" من الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك فيطرح، في صيغة تساؤل، قضايا مركزية متلازمة ومتداخلة، لا يمكن فصل أيّ منها عن الأخرى.
الأولى هي لماذا التمكين الرقمي (Digital Empowerment)، وليس الرقمنة (Digitization)؟ أما الثانية فهل الهدف الاستراتيجي النهائي هو التمكين الرقمي في التعليم أما أن الأمر أكثر شمولية من ذلك، ومن ثم فمن الطبيعي أن يتسع فيشمل "التمكين الرقمي"، مرافق الأنشطة المجتمعية الأخرى، فهناك "التمكين الرقمي السياسي"، وعلى مقربة منه "التمكين الرقمي الاجتماعي أو المجتمعي"؟ فطالما أن العالم، والبحرين لا يمكن أن تكون حالة استثنائية تغرد خارج أسرابه، يتجه اليوم نحو "الرقمنة"، فمن الصعوبة بمكان التقوقع في الشق التعليمي وتناسي الأنشطة الأخرى.
فيما يتعلق بالمقارنة بين الترقيم والتمكين الرقمي، هناك بون شاسع بين الإثنين، وخاصة في مجال التعليم، ومن ثم فقد كانت مملكة البحرين دقيقة وموفقة حين صاغت التعبير، فبينما يقود اللبس نحو الرقمنة، فيقع في مطب من يدعو لها أو يسعى لتحقيقها في فخ صنمية تأليه الآلات الإلكترونية، والبرامج المرافقة لها أو المنصات التي تستخدمها، يخاطب التمكين الرقمي الإنسان، ويحاول أن يأخذ بيديه كي ينتقل تدريجيا، وبشكل تطويري ممنهج من ممارسة أنشطته، وفي القلب منها العملية التعليمية، من مداخل تقليدية إلى تلك المرقمة. ومن ثم فجوهر عملية "التمكين"، هو تأهيل المواطن وإعداده في المرحلة الراهنة، كي يكون مستعدًا للمرحلة المستقبلية القادمة القائمة على الرقمنة. ومن هنا يأتي الفرق بين إخضاع الإنسان للآلة، وتحويله إلى واحد من عبيدها، وهو الرقمنةـ وتسخير الآلة للإنسان من خلال مساعدته على الاستخدام الأفضل والأكثر جدوى لها وهو "التمكين الرقمي". وتأسيساً على ذلك يمكن القول إنّ صياغة البحرين لتعبير "التمكين" كانت موفقة، ومن ثمّ ستضع أقدام المشاركين في" GEFT" على الجادة الصحيحة الواسعة، وليس الطرق الضيقة الملتوية، التي تهدر الأموال، وتضيع الجهود.
أما بشأن التساؤل الثاني، فربما تكون الإجابة عليه أكثر سهولة، إذ إنّه من الصعوبة، إن لم يكن من المستحيل عزل التمكين الرقمي في دائرة ضيقة لا تتمرد على جدران المدرسة أو الفصل الدراسي. فكما هو واضح للعيان، إن المجتمع البشري يتجه، وأن كان بدرجات مختلفة وسرعات متباينة، نحو التمكين الرقمي. وبالتالي نحن نشهد اليوم عملية "الانتشار الرقمي" في الأنشطة الإنسانية الأخرى وفي المقدمة منها النشاط السياسي. ولا شك أنّ من تابع بعين راصدة دقيقة مجريات الحراك الذي اجتاح المنطقة العربية خلال السنوات الخمس الماضية سيكتشف دون أيّ عناء، أن من كان أكثر "تمكنا" في استخدام الوسائل "المرقمنة"، في نشاطه السياسي كان أكثر حضورا في المشهد السياسي، وعلى أكثر من مستوى. بل إنّ حجم ذلك الحضور كان متناسباً طرديًا مع قدرات الاستخدام وكفاءته.
هذا يقودنا نحو التساؤل الثالث، والذي هو هل المدخل الصحيح هو دخول العالم الرقمي، ومن ثم ولوج مرحلة "التمكين" من بابها التعليمي/ التربوي العمودي أولاً وهذا كفيل بتطوير المواطن الرقمي المؤهل لاستخدام الأدوات الرقمية بشكل أفضل وأكفأ ثانياً، أم اقتحامها من بوابتها الأفقية الواسعة بحيث تتم عملية التمكين على دفعة واحدة وفي مجالات الحياة الأخرى من سياسة واجتماع واقتصاد. قراءة متأنية للتطور الذي عرفته المجتمعات البشرية، تثبت بما يقطع الشك، أنّ الخيار الأول هو الأصوب والأكثر جدوى على الصُعد كافة. فقد طور الإنسان ذاته سياسياً واجتماعياً من خلال عملية التعلم، التي بدأت بشكل بطيء، ثم تنامت وتائر سرعتها مع تطور استخدام الإنسان للتقنية، حتى في أشكالها البسيطة التي كانت تتلاءم وإمكاناته المتواضعة المتنامية في كل مرحلة من مراحل التطور التي عرفها ذلك الإنسان.
وحدها المجتمعات التي حققت التمكين، وفي مراحل لاحقة التطور العمودي في كل نشاط مجتمعي، وأولت التعليم الأهمية القصوى وفي المراحل المبكرة من التحول الرقمي، هي التي نجحت في تحقيق التحولات النوعية المطلوبة في تقدمها، وهي التي نجحت، بالتالي في الاستخدام الأفضل للتقنية المتناسبة ودرجة تطورها قبل أن تصل إلى مرحلة التطور الرقمي.
وعلى الخلاف من ذلك شهدنا تعثر المُجتمعات، وخاصة في المرحلة المتأخرة من التطور البشري، التي حاولت استيراد التقنية، ومن ضمنها التقنية الرقمية دفعة واحدة، لم تستطع هضمها واستيعابها فتحشرجت بها، واضطرت للقبول بقشورها لضعف قدرتها الاستيعابية.
في ضوء كل ذلك، يكون خيار التمكين الرقمي وليس الرقمنة هو خيار صائب، وتدشين ذلك التمكين في القطاع التعليمي/التربوي هو تحديد دقيق للمسار الصحيح، فمتى ما طور التلميذ المتمكن رقميًا، سيكون ذلك حجر الأساس في صرح المواطن الصالح المُتمكن رقميًا. هذا ما تعلمنا إياه تجربة التطور الإنساني، ولا يمكن أن يكون الترقيم ظاهرة استثنائية كي لا تكون شاذة، وبالتالي تكون مُنافية لقوانين تطور الكون وأنظمة تنظيم حياة من يقطنه.