الحياة جميلة..

عائشة البلوشية

في طفولتنا كنا نستمتع بحديث الذكريات من كبارنا، حيث كانوا هم المرناة (التلفاز) والحاكي (المذياع) بالنسبة لنا، وكم كانت رواياتهم التشويقية تنتشلنا من عالمنا الواقعي إلى عالم الخيال، وخصوصا إذا ما كانت الرواية ﻷحداث حقيقية، وأذكر جيدا عندما كانت جدتي الحبيبة تتحدث عن أهمية شكر النعم، وضرورة المحافظة عليها بالحمد وعدم الجور والمغالاة في استنزافها، وكانت تتحدث عن ذلك الزمان الذي عاشته في طفولتها وقلة الطعام الذي كان جلادا لا يرحم، وخصوصا إذا غزت سحب الجراد زروعهم، وأتت على محاصيلهم، ولكنّها تتذكر ذلك المنظر الجميل عندما تتعسر الحالة الاقتصادية يقوم كل شيخ قبيلة وزوجته وعياله بخدمة المجتمع المحيط بأنفسهم، وذلك لبث روح التلاحم والترابط ورفع الحرج عن الجميع، فقد روت لنا وأكد على هذا الكلام الكثير ممن عاصروا تلك الحقبة، بأن والدها الشيخ راشد بن سعيد بن علي البلوشي ووالدتها غاية بنت سعيد - رحمهما الله وغفر لهما وأسكنهما الجنة- كانا في فترات الجوع وقلة الطعام يجلسان على باب بيت العود الذي كان سكنا لهما، وإلى جوارهما مرجل مرق اللحم وسف الخبز (خبز رقاق مرصوص فوق بعضه) وحل تراب (الجاز أو الكيروسين المستخدم وقودا للفنر/ السراج، وكلمة حل بفتح الحاء وتشديد اللام تعني الزيت في اللهجة العمانية الدارجة) في وقت العصر، حيث إن والدها - أطعمه الله من طعام الجنة- كان يحزم متاعه بعد فترات القحط أو هجمات الجراد ويذهب إلى مدينة دبي، حاملا معه ما تيسر له من بضائع كالتمر واللومي اليابس والسمن والدبس ويبيعها، ثم يبتاع الأرز والقمح وحل التراب وغيرها من المؤن الضرورية لفصل الشتاء القارس؛ وعند تحضير تلك الوجبة يرسل الشيخ بأحد الحراس ليعلن للناس بأنّ من أراد خبزًا أو مرقا أو حل تراب، فليذهب إلى بيت العود، ويتوافد الجميع إليهما، فمن كان لديه المرق في بيته ولم يكن لديه خبز بسبب ندرة البر بعد أن أتى الجراد عليه، يأخذ حصة من الخبر لعياله، ومن جاء وفي يده صفحة فارغة يملؤها له مرقا، ومن جاء يطلب المرق واللحم أعطي ما أراد، ومن جاء بالفنر مليء بحل التراب وكانا يقومان بذلك بأنفسهما، وكم كانت هناك من المواقف والقفشات الطريفة بينهم وبين من أتى إليهم، فتجد منهم من يتحيّل بالكلام والمزاح حتى يحصل على المزيد، ويبعثان بأولادهما إلى من عجز عن الوصول، وذلك حتى لا يبات أهل بيت من الحارة وهم جياع أو بدون إنارة، ولا ينهضان من مكانيهما حتى يفرغ المرجل وينتهي الخبز، ترنيمة جميلة من التآلف الاجتماعي..

كنت أتصفّح إحدى المجلات فقرأت خبرًا جعلني أعيش لحظة من التفكر والدهشة والرغبة في الضحك في آن واحد، وهو الخبر الأكثر قراءة في مواقع التواصل ويقول: "كان ويلينجتون آر بيرت مليونيرا جشعا، لم يرغب أن يرى ثروته التي جمعها طيلة حياته تنتقل بين أفراد عائلته، لذا فقد حظر في وصيته توزيع ثروته، إلا بعد مرور 21 عامًا على وفاة آخر حفيد من أحفاده، وفي عام 2011م تقاسم 12 من أحفاد الأحفاد الثروة التي كانت تقدر بـ 100 مليون دولار"!!، يا إلهي ما هذا؟ كيف يمكن لبشر مهما بلغ من الجشع أن يأتي بهذا التفكير الغريب، ولكن عندما تذكرت مقولة للمرحوم الشيخ محمد متولي الشعراوي أحسست برغبة في الضحك، ولكنني كنت غارقة في بحر التعجب من لطف الله، يقول رحمه الله معرفا الرزق: "الرزق هو ما ينتفع به وليس هو ما تحصل عليه، فقد تربح مالا وافرا ولكنك لا تنفقه ولا تستفيد منه فلا يكون هذا رزقك، ولكنه رزق غيرك وأنت تظل حارسا عليه لا تنفق منه قرشا واحدا، حتى توصله إلى صاحبه"، فهذا الرجل لم يكتف بأن يجعل من نفسه حارسا على تلك الثروة، بل جعل أبناءه وأحفاده المرغمين حراسًا عليها، وتظل تلك الثروة كنزا منتظرا لمدة واحد وعشرين عاما بعد وفاة آخر حفيد، لتصل كما أراد لها رب العزة أن يستمتع بها إثنا عشر حفيدا؛ ما أوضح هذا التعريف وأروعه ليجعلنا نتفكر بأننا مهما عملنا وجمعنا -إن استطعنا ذلك- فليس رزقنا إلا ما استهلكناه فقط، أمّا خلاف ذلك فهو رزق غيرنا من أبناء وآباء وغيرهم ممن لهم حقوق المواريث علينا، لذلك لماذا لا نعيش بما رزقنا الله تعالى ونسعد به، ونبدأ في إسعاد الدوائر المحيطة بنا، مبتدئين بالدائرة الأقرب، ثمّ نجعل للمجتمع من حولنا نصيب، قاصدين بكل ذلك الزلفى ممن رزقنا وأنعم علينا..

كم أبتهج سعيدة عندما أرى همم الشباب تتقد وتتسابق لمد يد العون لخدمة شخص أو أشخاص في محيطهم، ويبذلون ما استطاعوه من جهد أو وقت أو مادة ليتذوقوا طعم السعادة الحقيقية في تقديم خدماتهم المختلفة، مدركين بذلك المعنى الحقيقي للحديث الشريف: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم به" رواه الحاكم؛ واليوم نجدهم يدًا بيد مع جهود الحكومة يجعلون للحياة طعما ومعنى جميلا بالاهتمام بغيرهم؛ وبالمناسبة فإنّ الخدمة المجتمعية هي جزء لا يتجزأ من المناهج الدراسية للصفوف العليا في أغلب دول العالم، وعلى الطالب أن يجتاز تلك المادة حتى يكمل سنوات المدرسة ويحصل على شهادة إتمام الدراسة، وذلك لغرس مبدأ الاهتمام والانتماء للمجتمع المحيط في نفوس الناشئة، لنجعل لحيواتنا معاني سامية ونستمتع بما أنعم الله علينا من مختلف الأرزاق من علم أو مال أو صحة أو عيال أو وقت أو غيرها من النعم الكثيرة، وأن يكون لدينا نقطة الإحساس بالآخر، ليس من منطلق ديننا الحنيف وحسب، بل من منطلق الإنسانية جمعاء أيضا، وأن الله تعالى هو الرحمن الرحيم، لنتراحم وليقدر بعضا بعضًا من مبدأ (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)...

توقيع: قال صلى الله عليه وآله وسلم: "يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مال إلا ما أكلت فأفنيت، ولبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت" صدقت يا سيدي يا رسول الله.

تعليق عبر الفيس بوك