من ظلمات السجن إلى نور الحياة

 

 

 

مدرين المكتومية

لم يعُد السجن في المفهوم الحديث مجرد جدران عالية وأبواب مؤصدة؛ بل أصبح مساحة لإعادة البناء والتطوير واكتشاف الذات، وفرصة حقيقية لاستعادة الإنسان لذاته وتصحيح مساره في الحياة؛ فالمُجتمعات الواعية هي تلك التي تنظر إلى النزيل بوصفه إنسانًا تورَّط ذات يوم وأخطأ، وليس على أنَّه خطر دائم يجب إقصاؤه من الحياة وإنزال أشد أنواع العقاب والحرمان، كما تؤمن هذه المجتمعات المتقدمة بأنَّ الإصلاح أهم وأسمى من العقاب، وأن العدالة الحقيقية تبدأ بالتمكين لا التوبيخ والإقصاء.

ومن هذا المنطلق تتجسد التجربة العُمانية في إدارة السجون كنموذج إنساني مُتقدِّم وواعٍ يُعيد صياغة مفهوم العقوبة ليصبح طريقًا ومسارًا نحو الإصلاح وبوابة للاندماج الإيجابي في المجتمع مبنياً على بناء القدرات واحترام الكرامة الإنسانية وصناعة الأمل من جديد.

ومن هنا تواصل شرطة عُمان السلطانية تقديم نموذج إنساني متقدم في التعامل مع النزلاء يقوم على الإصلاح لا العقاب وعلى بناء الإنسان لا كسره، ففلسفة الشرطة في إدارة السجون تنطلق من قناعة راسخة بأنَّ السجين إنسان أولا لديه الكثير والكثير مما يعاني منه، ولربما دوافعه لم تكن سوى دوافع لحظية يعيش طوال حياته نادما عليها، وأن العقوبة يجب أن تكون محطة تصحيح وتمكين لا وصمة تلاحقه طوال حياته. وما تشهده السجون العُمانية من برامج تدريب وتأهيل وتطوير مهني وحرفي وما يعرض اليوم من منتجات عالية الجودة ومنتجات تستحق الالتفات بأيد كانت يومًا خلف القضبان هو أمر يؤكد أنَّ الشرطة لا تتعامل مع النزيل باعتباره رقمًا ضمن مجموعة من الأرقام الموجودة أو ملف قضية يحتاج بين الحين والآخر إعادة فتحه وتوبيخ صاحبه ومعاقبته؛ بل تتعامل معه كطاقة كامنة يمكن إعادة توجيهها نحو الطريق الصحيح.

ولقد نجحت شرطة عُمان السلطانية في تحويل فترة السجن من عمر وزمن ضائع إلى فرصة حقيقية للتعلم واكتساب المهارات وبناء الثقة بالنفس في بيئة تراعي الجوانب والنفسية والإنسانية والاجتماعية للنزيل بعيدًا عن الأحكام المسبقة أو القسوة عليه، والأهم من ذلك أن هذه الجهود لا تتوقف عند حدود السجن؛ بل تمتد إلى ما بعد الإفراج والتي تأتي عبر تمكين النزيل بمهارات مهنية حقيقية تجعله قادرًا على الاندماج في المجتمع دون شعور بالخجل أو الخذلان أو النظرة الدونية لنفسه؛ فالسجين الذي يخرج من السجن وهو يحمل بين يديه مهنة أو حرفة وربما مشروعا صغيرا يخرج وهو يشعر أنه شخص منتج ومهم قادر على إعالة نفسه وبناء حياته من جديد وربما أيضًا المساهمة في بناء أسرة كاملة، وليس عبئا على المجتمع كما يظن البعض ذلك.

إن النظر إلى السجين بعين الإنسانية هو جوهر التجربة العُمانية في إدارة السجون؛ حيث تتحول تلك الغرف والزوايا الى حاضنات وورش تدريب وتأهيل، وتتحول الجدران إلى مساحات أمل وضوء من النور يصل لأبعاد من تلك الحدود، بحيث يعاد بناء الشخصية على أسس من المسؤولية والانضباط والاعتماد على الذات، وهي خطوات مهمة ومميزة تعكس رؤية استراتيجية واعية لدى الحكومة وبالتحديد لدى شرطة عُمان السلطانية في إدارة أوضاع النزلاء بما يتوافق مع متطلبات سوق العمل واحتياجات المجتمع.

ويأتي الأسبوع الخليجي الموحد للنزيل ليؤكد هذه الرؤية بوصفه منصة توعوية تسلط الضوء على أهمية الإصلاح وأهدافه في إعادة دمج النزيل في المجتمع وتحقيق التوازن بين العدالة والإنسانية، وقد أثبتت نتائجه نجاح هذه التجربة من خلال جودة المخرجات وتغير النظرة المجتمعية تدريجيًا نحو السجين، وهو ما ترجمه شعار هذا العام "نحو طريق الإصلاح" عمل القائمين في إدارة السجون على تطبيقها بكل جد واجتهاد لبناء إنسان قادر على العيش والكسب وبناء نفسه في أي مكان وزمان.

وفي الختام إن الدور الدائم الذي تقوم به شرطة عُمان السلطانية في هذا المجال يستحق الإشادة ليس فقط لأنه يعيد تأهيل الأفراد؛ بل لأنه يحمي المجتمع ويعزز قيم الرحمة والمسؤولية، ويؤكد أن طريق الإصلاح يبدأ بالإنسان، وينتهي بمجتمع أكثر أمانًا وتماسكًا.

الأكثر قراءة

z