مكتبة لبيع الكتب

فيصل الحضرمي

كُنت أبحث عن مجلة نزوى عندما تمخَّضت عن جولة البحث الفاشلة تلك فكرة هذه السطور. العدد الأخير من المجلة صدر معه كتاب عن الموسيقى العمانية للباحث وليد النبهاني؛ فقررت الحصول على نسخة من المجلة لأطلع على ما كتب في الإصدار المصاحب حول موسيقانا الجميلة. ابتدأ البحث قبل أكثر من أسبوع ولا يزال جارياً ولست متأكداً من نفسي الطويل بهذا الخصوص!

في البدء بحثت في أكثر من محطة لتعبئة الوقود. في بلادنا بعض المحطات أفضل من أية مكتبة في توفير مختلف المجلات: محطات الوقود أكثر شبهاً بالمكتبات من المكتبات. بالمناسبة، هل هي حقاً مكتبات؟ لماذا لا يسمونها بأسمائها الحقيقية؟ مثلاً: محل تصوير وطباعة وإعداد بحوث.. أو: محل بيع كتب الطهي والفتاوي والتنمية البشرية وأسرار الحياة الزوجية.. أو: محل بيع القرطاسيات والأقلام والألوان.. أي اسم أكثر دقة وأقل غشاً وأسلم للمزاج الرائق السليم. بحثت في محطات الوقود ولم أجد بغيتي. وبحثت أيضاً في المكتبات. أقصد ما يطلق عليها مكتبات تجاوزاً.

قبل سنوات، ربما ثلاث أو أربع، قصدت أقرب "مكتبة" إلى بيتي. أخي الصغير طلب مني أن أشتري له دفتر موسيقى. أخبرني البائع في المكتبة أنهم لا يبيعون دفاتر الموسيقى لأن الموسيقى حرام نقلاً عن صاحب المكتبة نقلاً عن لا أدري من. الشاب اللطيف قال لي أنه من الضروري أن يوفروا دفاتر الموسيقى لأن الطلب عليها كبير، ولكن صاحب المكتبة يأبى ويصر. أنا، من جهتي، سألته سؤالاً غبياً: هل تعلم وزارة التربية والتعليم بهذا الأمر؟ وفي داخلي قلت: هل يصح هذا الأمر؟ مادة تقررها وزارة وتُمتنع المكتبات! عذراً: محلات بيع السلع والخدمات المنوعة المذكورة أعلاه، عن توفير الكراسات اللازمة لتعلمها؟ من سيبيعها إذن ما دام الذين يبيعون الدفاتر بأنواعها، دفاتر الكتابة والرسم البياني، لا يبيعونها؟ فكرت أيضاً: ماذا سيحدث لمادة الموسيقى لو قررت جميع هذه المحلات الامتناع عن بيع هذا النوع من الدفاتر؟ المهم أنني وجدت الدفتر في مكان آخر بعد عناء لم يكن ليكون له داع لو كان صاحب المكتبة منفتحاً على خيارات الآخرين.

لذلك.. فإنني عندما زرت "المكتبات" هذه المرة بحثاً عن مجلة حداثية لها صيتها الواسع في الاهتمام بالآداب والفنون، الموسيقى وربيباتها الأخريات، كنت متيقناً من أنني لن أجد طلبي هنا. كنت أبحث لمجرد البحث. البحث للبحث. ليس للتسلية، وإنما كان حالي كمن يفتش عن شيء يعلم يقيناً أنه لن يعثر عليه ومع هذا يواصل البحث عنه فقط ليقنع نفسه، والمسألة نفسية بالطبع، بأنه قام بما ينبغي عليه فعله والباقي على الصدفة. ولكن الصدف بخيلة جداً إلا حين لا نرجو منها شيئاً. لم أجد المجلة بالطبع. وجدت نفس الأشياء التي أتيت على ذكرها أعلاه مضافاً إليها بعض المجلات الترفيهية المطبوعة خصيصاً لربات البيوت على أمل أن يقلبن صفحاتها بين رسالة وصورة وفيديو تتناسل كالثواني من شاشة المحمول الذكي. وعلى رفوف المكتبة صُفَّت كتب كثيرة لا تعنيني إطلاقاً. ليس ثمة فكر أو فلسفة أو أدب أو فنون أو علوم. ليس ثمة شيء.

هل تمَّ اختطاف المكتبات؟ سؤال طرحته ذات يوم على لفيف من الأصدقاء، فجاءت آراؤهم منقسمة بين الاتفاق والاختلاف. أحدهم زاد على إجابته ساخراً: وهل بقي شيءً لم يختطف؟ أما أنا، فقد كان رأيي يومها هو نفس رأيي اليوم. يتعزز رأيي هذا عندما تستحضر الذاكرة الأيام التي كنت أشتري فيها من نفس هذه المكتبات كتباً في التحليل النفسي من قبيل "نظرية الأحلام" لفرويد، ومجموعة كتب تتناول بالتحليل النفسي المشاهير والجنون والمحللين النفسيين أنفسهم مما أبدعه طيب الذكر سمير عبده، وأعمالاً أدبية مختلفة أذكر منها "الأب غورو" لبلزاك، و"الطاعون" لألبير كامو، و"الجدار" لسارتر، و"اعترافات" جان جاك روسو، و"تجليات" الراحل مؤخراً جمال الغيطاني...وغيرها الكثير. كان الوضع مقبولاً إلى حد ما، ثم تغيرت أشياء وما عادت بعدها الحال كما سبق. لو أن الكتب بكافة أنواعها ما عاد لها وجود في المكتبات لعزوت الأمر لتراجع الإقبال على الكتاب الورقي بشكل عام. ولكن الأمر يصبح مريباً عندما تخلو الرفوف من كتب بعينها لتستفرد بها كتب أخرى.

هذه الجولة البحثية المخيبة للآمال، أحيت في مخيلتي حلمي القديم بإنشاء مكتبة. مكتبة تتطابق حقيقتها مع اسمها ولا يوجد فيها سوى الكتب والدوريات الثقافية والعلمية. كتب في مختلف حقول المعرفة ولجميع القراء، ومجلات تباع آخر أعدادها أولاً بأول. وسيكون اسمها بكل بساطة: "مكتبة لبيع الكتب"، تمييزاً لها عن جميع المكتبات التي لا تبيع الكتب ولا تهتم بالثقافة ومع ذلك تتسمَّى بهذا الاسم. وحتى وإن لم يقدر لهذا الحلم أن يرى النور، فإن مجرد هدهدته في المخيلة تبعث في النفس شعوراً جميلاً مواسياً. وبالاقتباس من "بول فالري" مع شيء من التصرف: "هو حلم يستحق عند الصحو عناء الحلم به".

تعليق عبر الفيس بوك