"شهادات لا تُسمِنُ عِلماً، ولا تُغني عن جهل!

أمل الجهورية

يُشكلُ الحصول على العلم والمعرفة اليوم أحد متطلبات الحياة وضرورياتها، كونه يرتبط ارتباطاً مباشراً بمتغيراتها المختلفة، وجسراً للعبور للغايات العلمية، والعملية، والمادية كذلك، التي تأتي في نسق متوازٍ، مستجيبة لما يعيشه العالم من تطورات مختلفة، واعترافاً صريحاً بأنّ الشهادة أصبحت سلاحاً قوياً يمكن الحصول من خلاله على مطامع عديدة، بعيداً عن تحقيق هدف التعلم الحقيقي؛ مما جعل الأمر يسير بالبعض إلى طرق ملتوية بحثاً عن المارد الخفي الذي يساعدهم في الحصول على شهادات عليا لا تتطلب منهم تعباً، ولا تكبدهم عناءً أو مشقة، مستصغرين من قيمة العلماء، ومكانة العلم الذي بات كسلعة يمكن الحصول عليها مقابل عددٍ من الريالات، متجهين لصناعة المجد الزائف عبر شهاداتٍ لا حقيقة لها.

إنّ الحديث عن قضية "الشهادات الوهمية" كالجرح المفتوح يبقى نازفاً مهما حاولنا تضميده، لا سيما ونحن نعيش في ظل مجتمع انتقلت فيه حمى السرعة والاختصار والرغبة في تملك كل شيء تطال العقول والنفوس، فلا تبقي لها قدرا ولا أهمية، فما أسهل أن تستدرج الإعلانات عبر الشبكات أمنياتنا، وتخمد جذوة الطموح المشتعلة فينا، حينما تظهرعلى شاشة محرك البحث بوميض جذاب "هل تبحث عن شهادة جامعية من غير دراسة ؟ فيسعد بها البعض، ويتعامل معها كمصباح علاء الدين الذي ظهر ليحدث الفرق الجميل في حياته؛ ولكني حسبتها إهانة واستصغاراً للعقل والكفاءة ؛ الأمر الذي جعلني أفكر ملياً كيف يتعامل معها أصحاب العقول الصغيرة والنفوس الضعيفة ؟!

إنّ الإجابة عن السؤال السابق كانت حاضرة في عقلي، طبعتها السنوات كنهجٍ جميل استلهمته من كلمات القائد الوالد، حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه- عندما قال في حديثه الأبوي لطلاب جامعة السلطان قابوس في زيارته في العام 2000م، ناصحاً لهم مستنهضاً فيهم العزائم، مخاطباً العقول التي تحتل اليوم الكثير من مواقع المسؤولية في بناء هذا الوطن:" يجب ألا نقبل إلا من لديهم المؤهلات الحقيقية لينتسبوا إليها، ويكون باستطاعتهم أن يستفيدوا من انتسابهم إليها وليس مجرد الخروج من الجامعة بشهادة كورقة، لا تسمن ولا تغني من جوع..".

إنّ الرسالة هنا واضحة وصريحة بأننا في هذا الوطن لا نبني من أجل الشهادات الورقية بل من أجل ارتقاء الفكر واستنارة العقول، التي تستشعر أهميّة العلم وقدره وتسعى في طلبه جاهدة لا مُتكلة، وعازمة لا مزايدة على ثمن الشهادات وشراء البحوث أو الاختبارات؛ لتتسلق عبر طرق وضيعة لنيل الشهادة، والتباهي بالدرجات العلمية الوهميّة التي لا يمكنها أن تغير في ذات الإنسان شيئاً، ولا تضيف لعطائه مثقال ذرةٍ، ليتقادم الزمن على تلك الأوراق المدفوعة الثمن، فتصبح مجرد رمزٍ يُذَكرُ صاحبها بالضعفِ وغياب الضمير.

وأمام المد الهائل الذي أصبح يأتينا اليوم من الشهادات الوهميّة التي احتال أصحابها للحصول عليها، نتذكر رسالة أخرى من حديث جلالته أبقاه الله".. ونحن في هذا البلد ننتبه لمثل هذه الأمور؛ ولذلك البعض يعلم أنّ بعض الشهادات لا نقبلها أكانت جامعية أو كانت شهاداتٍ أخرى ما لم نتأكد أنّها شهادة حقيقية "، تتشكل لنا خطورة الموقف، وحجم انتشاره ليتحول إلى قضية لا تمس الفرد القائم بالفعل فحسب، بل تمس الأمن الفكري للمجتمعات لتنتقل إلى العبث بالوضع الاجتماعي والتعدي على حقوق الآخرين، وتهديد المقومات الخاصة به.

إنّ وقفة متابعة للجهود التي تقوم بها وزارة التعليم العالي بالسلطنة في هذا الشأن من خلال سعيها لإتاحة مساحة الحصول على الشهادات العليا وفق الأسس الصحيحة والسلمية، وتسهيل الكثير من الإجراءات للطلبة لاستكمال دراساتهم العليا سواء داخل أو خارج السلطنة في المراحل الدراسية المختلفة "البكالريوس، والماجستير، والدكتوراه" عبر خدمات إلكترونية منظمة ودقيقة سواء للتسجيل أو التصديق، أو المعادلة، وكذلك طلبات الالتحاق بالمؤسسات مع تحديد قائمة المؤسسات الموصى بالدراسة فيها في الدول العربية أو الأجنبية، يجعلنا نستنكر سعي البعض إلى طريق الشهادات الوهمية، وهذا الأمر تؤكد عليه إحصائيات الوزارة للعام 2015م عن قيامها بتصديق 3114 شهادة، ووجود 2800 طلب معادلة بينها 1996 للدراسات الجامعية، و804 طلب معادلة للدراسات العليا، بينما سجل 4095 طلب مواصلة دراسة منها 1743 للدراسات الجامعية، و2342 طلب دراسات عليا، إلا أنّ الوزارة لم تغفل الجانب الخفي في الأمر الذي تعاني منه من أغلب الدول العربية وغير العربية رغم تشديدها في الإجراءات؛ حيث كشفت الإحصائيات في ذات العام عن وجود محاولات لمخالفة النظام المعمول به، ورصدت الوزارة وجود (1250) حالة تزوير في الشهادات، تمّ اكتشافها بالتعاون مع وزارة الخارجية، منها (1117) حالة تزوير في الاختام/ الوثائق المختلفة، (133) حالة تزوير في المؤهلات العلمية، وتمّ التعامل معها وفقاً للإجراءات القانونية اللازمة.

إن وجود أكثر من (1200) حالة للتزوير في السلطنة خلال العام المنصرم، يُنبئ عن خطر قادم يستلزم وقفة جادة في التعامل معه؛ فلا بد من رادع قوي وتعامل قانوني مع هذه القضية حتى تكون العبرة مباشرة لمن يفكر في خوض تجربة كهذه؛ فلم تعد عملية التوعية في حد ذاتها كافية، ولم تستطع الحملة الإعلامية للتوعية بمعادلة المؤهلات والاعتراف بالمؤسسات التعليمية خارج السلطنة التي أطلقتها وزارة التعليم العالم في العام 2013م تحقق الردع الكافي وإن كانت لها نتائج إيجابيّة في توضيح الأسس والإجراءات، الأمر الذي يستلزم معه التشديد في التعامل مع حالات التزوير باختلاف وسائلها من خلال التعامل القانوني في الموضوع لا سيما وأنّ المشرع العماني في نص المادة (199) من قانون الجزاء العماني وضح مفهوم التزوير وأوضحت المواد (204-206) العقوبات الخاصة بهذا الفعل؛ لأنّ الأمر في موضوع تزوير الشهادات يرتبط بتحقيق أضرار تتجاوز الجانب المادي، وتنفذ للضرر بالنفس والضرر المعنوي أو الاجتماعي، كيف لا ونحن قد نصدم بشاعر بشهادة طبيب وتقصده مئات الأرواح من البشر للاستطباب، وعامل بشهادة مهندس يعول عليه الإنشاء والتعمير الذي تستظل تحته كثير من الأرواح، وكثير من الذين يتسلقون للمناصب العليا بشهادات لا صحة لها ولا أحقية لهم فيها؛ ليسلبوا غيرهم حق المكانة الوظيفية، مخلفين آثاراً نفسيّة جسيمة في تلك المؤسسات، إضافة إلى كل هذا فالأمر يحمل في مضمونه استخفاف بشأن العلم الذي كرمه الله وكرم أصحابه. يجب أن نقف جميعًا وقفة جادة للتصدّي لهذه الظاهرة بمختلف أساليبها أينما علمنا بوجود جذورٍ لها في عمان أو خارجها؛ فعُمانُ ليست بحاجة إلى أوراق واهية، بل إلى عقول تدرك قيمة العلم، وتسعى للارتقاء بمهاراتها؛ لتبني بالعلم بيوتاً لا عماد لها، بعيداً عن الشهادات التي لا تسمنُ علماً، ولا تغني عن جهلٍ.

Amal.shura@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك