"صنعائي" في ذاكرة أبناء الشهداء!

ليلى البلوشيَّة

"من تغنَّى بصنعاء، اقترب من الله، والتصق به الحب، وفهم معنى وطن"كما قالتالروائية اليمنية نادية الكوكباني في روايتها "صنعائي"، التي نشرتها للمرة الأولى عام 2013م، ثم تعود الرواية نفسها في طبعة جديدة وغلاف مختلف مع دار الحوار عام 2015 م دون أن تنبّه القارئ أو تشير إلى أنها الطبعة الثانية.

هذه الرواية التي كتبت بعد ثورة شباب اليمن على أعقاب عام 2011م، اليمن المشتعلة حتى وقتنا الراهن ويبدو أن طريق الاستقرار يلزمه أشواطا طويلة من التضحية وذلك ليس بغريب في بلاد كاليمن التي شهدت تاريخا حافلا بالحروب والأطماع والثورات، اليمن الذي كان سعيدا وما عاد سعيدا حين نشبت في أرضها أطماع الخونة الذين يريدون سلب كل ثرواتها ومنحها لأنفسهم ولسلالتهم من بعدهم كأنها مزرعة تعود ملكيتها لأفراد السلطة ومن هم خارج هذه السلطة من أبناء الشعب فهم جهلة وطمَّاعون إلى آخر تلك التصنيفات التي عفا عليها الزمن وشبع!

رواية "صنعائي" هي رواية أبناء الشهداء، رواية بلسان أبناء الشهداء، ولكن بذاكرة آبائهم الذين كانوا أبطالا والذين خاضوا كمقاومين أهم الحروب في اليمن خلال تلك الفترة من التاريخ، لعل من أشهرها حرب السبعين.

أول أبناء الشهداء يتجلى حضوره في أول فصول الرواية هي صبحية ابنة الشهيد التي تعود إلى الوطن مع أبيها الجثة الذي أجبرهم على المنفى في القاهرة لثلاثين عاما دون أن يسرد أسبابه على أبنائه، على ابنته وعلى ابنه الذي تزوج من مصرية واستقر معها وأم كانت تحمل حب بطلها في قلبها المدبوغ بالجرح، الابنة التي كانت تتساءل منذ أعوامها الأولى عن كيف يمكن أن تكون يمنية وهي تعيش في مصر؟ "لكن القاهرة كانت مدينتي الحرة، اكتشفت أن لي مدينتين ولهجتين ووطنين في سن مبكرة، ازدواجية الهوية وحنين الغربة للوطن، حتى السادسة من عمري وأنا أتحدث خارج المنزل بلهجة وداخل المنزل بلهجة أخرى".

صبحية التي يدفعها فضولها إلى نبش أسرار الأب البطل وتتبع حسراته التي دفعته إلى عزلة مديدة عن وطن أحبه بشدة، وطن حتى بعد مغادرته له جسدا ظلت روحه تقبض على أرضها باهتمام بليغ من خلال متابعة أخبارها وآخر مستجداتها منذ مغادرته لها في منتصف عام 1974م حتى لحظة وفاته.

لعل شغف صبحية الفنانة التشكيلية التي فتحت مرسما لها في صنعاء القديمة لتستعيض عن الثلاثين عاما قضتها في منفى اختياري ودرست في جامعتها الفنون بناء على رغبة والدها كانت ترفض الارتباط برجل لا يكون صنعائي حتى النخاع "رجل صنعاني، نعم، صنعاني خالص مائة بالمائة، نشأ وتربى في المدينة القديمة تحديدا، يعرف أزقتها، لعب في حواريها، وعجنته عاداتها وتقاليدها الإنسانية لذا كانت ترفض كل عريس غير يمني، كل رجل كان يمكن أن يكون بطل قلبها لو أنه من بلدها صنعاء، كان ذلك خيارا حتميا فلا يمكن للفتاة المعجبة بأبيها البطل الصنعائي أن تحب رجلا لا يشبهه "رجل صنعاني مثل أبي. بتفاصيل رجولته الصنعانية اليومية".

كان حميد -الصوت الثاني في الرواية، وابن شهيد أيضا- العاشق المثالي لصبحية وجدت فيه ما وجدت في نفسها، وجدت لديه ما وجدت لديها، أبناء شهداء، كان لأبيهما تاريخ في المقاومة والبطولة.

ظروف حميد التي تختلف عن ظروف صبحية فعائلته لم تغادر اليمن إلى منفى كما فعلت عائلة صبحية لذا الامتيازات التي حصل عليها حميد وأسرته كعائلة شهيد لردح من الزمن، لم تكن متاحة لــ صبحية وأخيها؛ لأن والدها لم يقتل أثناء حرب السبعين كوالد حميد الذي زفّ كبطل إلى قبره وعاش أبناؤه كأبناء البطل وظلت تلك الفترة تكرم الشهداء وأبنائهم لدواعي سياسية، في الوقت كان فيه والد صبحية منعزلا في منفاه، رغم ذلك حين عاد البطل إلى وطنه وأودع في أقدم مقبرة يمينة وهي مقبرة خزيمة الذي قيل بأنها كانت امرأة يهودية أسلمت وهي رعاية أسرة صنعانية بعد وفاة والدتها، فمنحت قطعة الأرض التي ورثتها عن أبيها؛ لتكون مقبرة صنعاء، هذه الحكاية التي سردها الأب لابنته صبحية قبيل وفاته بأيام، كأنه أراد أن يضع في يدها بِنْدُول التاريخ الذي لن يكف عن الحركة طالما وطنه ينزف!

وفي المقبرة، حيث يبدأ مشهد الرواية، رجل غريب عن الأسرة يرى صبحية كان يعرفها فتاة في الثانوية لكنها الآن هي امرأة، الملامح التي تنضج وتنضج معها الذاكرة الصهريج، الرجل نفسه يصادف صبحية في المتحف الحربي حيث علقت صور بعض الشهداء، ترى صبحية رجلا لا تعرفه ولكن الرجل يعرفها، هذا الغموض يظل عالقا حتى يتبع الرجل صبحية إلى مرسمها في صنعاء القديمة وهناك يقدم نفسه، اللقاء الأول يكون مربكا لكليهما، أما في اللقاء الثاني يسترسل غمدان وهذا اسمه في فتق حكاية جرحه كابن شهيد، تبدأ من صورة تجمع ثلاث رفقة كان أحدهما أب صبحية والآخر هو أب غمدان، كانت الحكاية على لسانه ومن مخيض ذاكرته أشد وجعا وأسى من الحكاية التي علقت بذاكرة صبحية وذاكرة حميد، غمدان الذي وضعه كشهيد كلّفه وكلفت أخيه الذي اضطرب حاله، وحال أمه التي تزوجت من رجل آخر أصبح وأبناؤها منه جل عالمها، غمدان الذي كانت ذاكرته مشرط مخثّر دما كلما تذكر أبيه الشهيد المقاوم وجيله من الأبطال الشهداء الذين ضاعت ثورتهم هباء في ظل سلطة جبارة خائنة حولت الوطن إلى ملكية خاصة واستأثرته لنفسها، غمدان الذي لم يسكت، ظلت روحه المشطورة تلاحق المستبدين من خلال الانضمام إليهم ليكشف خباياهم ويلعنها في الوقت الملائم!

"صنعائي".. هي رواية سياسية تشف الكثير عن الأحداث التاريخية التي غيرت خارطة اليمن في ذاكرة العالم، هي رواية للشهداء ولأبنائهم، هي دعوة للعودة، لنبش الذاكرة واخراج الحقيقية من كهف الظلمات، الحقائق المطموسة توازي ذاكرة مطموسة لجيل من الأبطال والشهداء، هي بالأدق تذكير عن خناجر علقت في الخواصر في لحظة خيانة، عن شهداء سقطوا وفنت تضحياتهم سدى، عن عصابة تنهب اليمن منذ دهر طويل وما تزال العصابة نفسها تنهبها في وضح النهار وحوّلت عمارها إلى خراب!

وفي هذه الرواية، برعت الروائية في تجييش الذاكرة وترتيب أحداثها التاريخية في ذاكرة غير اليمنيين تحديدا، فاليمن وشمت تاريخها في قلوب أبناء أرضها منذ الأزل، اليمنيون الذين يوقنون بهذه العبارة أكثر من أي أحد آخر "كان من المفروض أن تكون اليمن هكذا لو أخلصوا لها!".إنها رواية عن تاريخ مديد من الثورات في بلد عريق كاليمن.

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك