الممرضون في يومهم (عائشة أنموذجا)

د.عبدالله باحجاج

كيف مرَّ يوم الثالث عشر من مارس الحالي دون أن نشعر بأنه يوم مهني لكل الممرضين والممرضات؟ ففي مثل هذا اليوم من كل عام، اتفقت السلطنة مع بقية دول مجلس التعاون الخليجي على اعتباره كذلك لكل الممرضين والممرضات في دول المجلس، ولماذا مهنة التمريض؟ لأنها عصب الخدمات الصحية، ولأنها مهنة ذات حمولات إنسانية واجتماعية قبل أن تكون خدمة طبية، وهنا ينبغي أن نسأل الممرضين والممرضات عن يومهم؟ وهل يلمسون الجديد بعد كل احتفال سنوي؟ وهل هذا المرور السنوي يزيد من معنوياتهم، ويعزز طموحاتهم وكذلك إلى أي مدى هم راضون عن تقدير المجتمع لهم؟ وعن حجم رضاهم المادي والمعنوي لمهنتهم؟

يهمنا رضاهم كثيرا، بل وإسعادهم التي هى درجة أعلى من الرضا، لطبيعة رسالتهم الإنسانية النبيلة، وتحول ليلهم إلى نهار، ونهارهم إلى ليل، لأنهم يعملون في مهنة من طبيعتها العمل على مدار الساعة، ولأنها مهنة تستخدم فيها جميع الحواس ويتم فيها إطلاق كل المشاعر الإنسانية، وتجنيد كل الطاقات والخبرات لإنقاذ المرضى، ولأنها مهنة تحتم عليهم الدقة والتركيز وحسن الاستماع، ولأنها مهنة تستوجب الصبر وسعة الصدر، ولأنها مهنة تحتم الابتسامة ولو كان القلب حزين، ولأنها مهنة تعنى بالأمراض البسيطة والكبيرة، الأمراض المعدية، والأمراض غير القابلة للشفاء أو المستعصية أو المميتة.. ولأنها مهنة تستوجب أن يقف الممرض/الممرضة مع مرضاهم حتى اللحظات الأخيرة من حياتهم، ولأنها مهنة احترافية، يخضع الممرضون للتدريب والتأهيل والتعليم من منظورين: نظري وتطبيقي، عبر مؤسسات أكاديمية متخصصة بدأت بمعاهد وتطورت الآن إلى كليات حكومية منتشرة في كل المحافظات غير المؤسسات الخاصة، ولأنهم قد تمكنوا بنجاح من كسر الحاجز الاجتماعي الذي كان يقلل من قيمة هذه المهن خاصة بالنسبة للإناث، وعددهم 8668 ممرضة وممرضا حتى العام 2014، وقد تعرفنا من خلال حديثنا مع احدى الممرضات في محافظة ظفار التي هى واحدة من مجموع 580 ممرضا وممرضة على طبيعة الخلفية الفكرية الدافعة لاقتحام هذا المهنة، وهى تتجلى فيما أقدم عليه الرسول -عليه الصلاة والسلام- عندما أولى مسؤولية علاج الجرحى في غزواته إلى رفيدة الأسلمية ثم نسيبة بنت كعب، والقارئ لتاريخنا الإسلامي سوف يلاحظ فعلا خروج المؤمنات المجاهدات مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزواته وفتوحاته الإسلامية لمداواة الجرحى وإسعاف المجاهدين وتضميد جروحهم وجبر كسورهم وربط نزيفهم في خيام كانت تعد لهذا الغرض خلف الجيش الإسلامي، بهذا الوعي الرفيع كسرت اولئك الفتيات الحاجز الاجتماعي، وشققن الطريق في هذه المهنة بامتياز وإبداع لافت، وهناك أمثلة كثيرة يمكن الاستدلال بها، لكنني سنقف عند عائشة بنت سيف عامر المحرزية التي يرتبط اسمها بتخصص نوعي وهو "قدم السكري"، وهو أخطر أنواع مرض السكري، وإذا لم يعالج في الوقت المناسب يؤدي إلى بتر القدم.. من هنا كان شغل عائشة الشاغل، فمرضى السكرى يتزايدون، وقد وصل عددهم الآن إلى 82،105 حسب إحصائية وزارة الصحة لعام 2014 ومعها عمليات البتر تتواصل، فقررت على نفقتها (الخاصة) تأهيل نفسها لهذا النوع من التخصص، فأكملت دورة لمدة عام خاصة بالعناية بالجروح المزمنة من جامعة تورنتو بكندا عام 2008، وعلى (نفقتها) كذلك حصلت على الماجستير نفس التخصص من جامعة هيرتفوردشير البريطانية عام 2014.. وبعد تخرجها وجدت تخصصها يتقاطع مع إستراتيجية وزارة الصحة للعناية بالقدم السكري بعد انتشار هذا المرض في المجتمع، وتصاعد مضاعفاته، وقد ساهمت في تدريب 108 ممرضات، كما ساهمت في افتتاح 25 عيادة قدم سكري في السلطنة، والنية تتجه إلى رفعها لـ31 عيادة نهاية السنة الحالية، ولم يقتصر دورها على الداخل فقط، بل سعى لها الخارج للاستفادة من كفاءاتها العلمية وخبراتها المهنية، حيث تعقد دورتين كل سنة في الإمارات كما تقوم بتدريب اطباء وممرضات في بقية دول الخليج الأخرى، وهى من منظمي المؤتمر الخليجي للقدم السكري، وتشغل نائبة رئيس المجموعة الخليجية للقدم السكري، هذا نموذج للممرضة العمانية المجيدة، التي إرادتها من حديد، حفرت بها الجبال لتشق طريقها نحو قهر الصعاب، لم تستسلم للسلبيات ولا للمنغصات، حددت رؤيتها المستقبلية ومن ثم عملت جاهدة على تحقيقها، وأخيرا كان لها ما ارادت.. حالة نموذجية نفتخر بها بحق، ومن حقها علينا أن نقدمها بصوت مرتفع كنموذج من عدة نماذج تجاوزت النجاح إلى الإبداع، والتي لم تعطلها الأفكار السلبية ولا المحبطات التي كانت تعترض طموحاتها.

كان من الطبيعي أن يتم تكريم عائشة في اليوم الوطني للتمريض، وهذا التكريم تصفه عائشة بأنه فرحة لا توصف، لكن فرحتها الكبرى كانت في تكريم ثلاث ممرضات ممن ساهمت في تدريبيهن وتأهلين في تكريم متزامن ومشترك معها، وهنا نقدر ونثمن شعور عائشة، فهى قد تجاوزت الذات "الأنا" إلى ذات الجماعة، وكيف ستكون النتائج إذا ما اقترنت جهود "الأنا" مع جهود الجماعة والمؤسسة الحكومية؟ لن نفترض هنا الاجابة، وإنما سننطقها بالأرقام كذلك، وهى تقول إن جهود التوعية وعملية افتتاح قدم السكري في المحافظات قد ترتب عليها انخفاض علميات البتر بشكل ملحوظ، فمن 152 حالة عام 2012 إلى 102 حالة عام 2013، وهذا مؤشر يدلل على الإنجاز الذي يتحقق بعيدا عن الأضواء. ومن هنا، نقف مع هذه المهنة الإنسانية الاجتماعية، نقف اليوم لحمل الآخرين على إبداء التقدير من مختلف أشكاله وأنواعه، المادي والمعنوي، وكذلك لزيادة الوعي الاجتماعي بمهنة التمريض، وتفنيد الاعتقادات الخاطئة، كالاعتقاد بأن الواجبات المكلف بها الممرض والممرضة هامشية وثانوية للخدمات الطبية قياسا بواجبات الأطباء، ويكفي ما ذكرناه سابقا من استدلالات تستدعي التعاطف الحكومي والمجتمعي مع الممرضين الممرضات ومن يماثلهم في مهنتهم وفي القطاعات الأخرى، لأننا لا نستهدف تحقيق الرضا لهم، بل إسعادهم، وهذه السعادة تتجاوز تأمين الحقوق المادية والمعنوية الاعتيادية في إطار العلاقة الوظيفية، إلى الانفتاح على ظروفهم الذاتية والاجتماعية، كإعادة النظر في السلم الوظيفي وجدول الدرجات، أو في إعادة التسكين وفي بعض القوانين الأخرى. وكتأمين: قبول أطفال الممرضات في دور الحضانة، وإنشائها بالقرب من المؤسسات الصحية الكبيرة، وتقليل عدد ساعات العمل وكذلك إعطاء الممرضين والممرضات الأولوية في بعض الحقوق كالأراضي والقروض الإسكانية والاجتماعية.. ونتمنى أن يكون الاحتفال السنوي باليوم الوطني للممرضين في كل محافظات البلاد وتحت رعاية حكومية رفيعة المستوى، ويشارك في دعمه المالي القطاع الخاص بدلا من اقتصاره على محافظة مسقط.

-------------------------------

ملحوظة: 45 عضوًا من أعضاء مجلس الشورى يطالبون (مناقشة) وليس استجواب معالي وزير النقل والاتصالات.. تصحيح لما ورد في مقالنا الأخير.

تعليق عبر الفيس بوك