تفجيرات بروكسل: حرب كونية ثالثة بالنيابة

عبيدلي العبيدلي

"استنفرت العواصم الأوروبية بعد التفجيرات التي شهدتها العاصمة البلجيكية بروكسل يوم الثلاثاء الموافق 25 مارس 2016 وأدّت إلى مقتل 34 شخصًا على الأقل، وإصابة 136 آخرين، بعضهم بحالة خطرة. وعلى إثر التفجيرات عمدت العديد من الدول الأوروبية وأميركا وروسيا للقيام بتعزيزات أمنية في المطارات وعلى الحدود. وعلقت بلجيكا حركة الملاحة الجوية وأغلقت شبكة مترو الأنفاق، وأعلنت حالة التأهب القصوى في جميع أنحاء البلاد كخطوة احترازية لإحباط أي تفجيرات محتملة أخرى أو القبض على أي أشخاص من المتورطين أو من لهم أي صلة بالحادث".

وتوالت الإدانات من كل حدب وصوب، البعض منها اكتفى بإدانة العملية والجهة التي تقف وراءها، ووسع البعض الآخر دائرة الشجب كي تشمل الإسلام والمسلمين. بداية ليس هناك من في وسعه، أو يحق له، عدم شجب تلك التفجيرات ومن قام بها، بغض النظر عن الأشخاص الذين خططوا لها أو تولوا تنفيذها. فالضحايا أبرياء بكل المقاييس الإنسانية والدينية، ولا يمكن، مهما سيقت الأسباب والدوافع ألا تجرم العملية برمتها. هذا على الصعيد الإنساني، أما من الجانب السياسي، فمن السذاجة السياسية حصرها في تنظيم "داعش"، أو معالجتها كما تعمد العديد من وسائل الإعلام من زاوية دينية محضة.

قراءة التفجيرات التي عمت العالم خلال السنوات القليلة الماضية، لا بد لها أن تنطلق، إن هي شاءت معالجة المشهد السياسي العالمي بعيدًا عن الانفعال، ودون الوقوع في فخ الإعلام الدولي ومن يسير في دبره من مؤسسات إعلاميّة أخرى، بما فيها تلك العربية، من زاوية علميّة تقوم على فهم الدوافع السياسية والعسكرية، والخلفيات الاقتصادية من منظور دولي شامل متكامل، مستعيدة في هذا المدخل صورة الحربين العالميتين الأولى والثانية، مشخصة الأسباب الحقيقية غير المعلنة لكل منهما على حدة.

فرغم أنّ السبب العلني المباشر لاندلاع الحرب العالمية الأولى كانت الأزمة الدبلوماسيّة التي "نشبت حينما أعلنت الإمبراطورية النمساوية المجرية الحرب على مملكة صربيًا بسبب اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند مع زوجته من قبل طالب صربي يدعى غافريلو برينسيب أثناء زيارتهما لسراييفو في 28 يونيو1914"، إلا أن الدوافع الحقيقية التي كشفت عنها الدراسات الاستراتيجية في مراحل لاحقة كانت ترى في "تعارض المصالح والمطامع الاستعمارية، (وفشل جميع مساعي تخفيف حدة الصراعات الناجمة للجم حدة هذا التسابق بين الدول المتخاصمة، والمتنافسة من أجل السيطرة على نطاقٍ واسع، لإيجاد أسواقٍ لها لتصريف منتجاتها الصناعيّة، والحصول على المواد الخام اللازمة لتلك الصناعات، بكل سهولةٍ ويسر، (وهذا في جوهره تعبير عن) التنافس أو النزاع الاقتصادي، الذي يتضمن بشكل غير مباشر المطامع السياسيّة". إذا في اختصار، كان السبب الحقيقي هو فشل الدول الكبرى حينها، وكانت أوروبية، في التوصل إلى شكل سلمي متحضر ينظم الصراعات فيما بينها، ويحول، بالتالي، دون اندلاع حروب مسلحة بين جيوشها.

المشهد يتكرر بعد ما لا يزيد عن ثلاثين عاما عندما تندلع الحرب الكونية الثانية، لكن يدخل حلبتها حينها اليابان من آسيا، والولايات المتحدة من القارة الأمريكية. هنا مرة أخرى لا بد للنظرة العلمية من البحث عن الأسباب الخفية غير المعلنة التي قادت إلى تلك، الحرب.

فجاء "اجتياح هتلر لتشيكوسلوفاكيا (سابقاً) وضمها إلى الإمبراطورية الألمانية، ثم اجتياحه لبولونيا (أيلول 1939) لتكون القشة التي قصمت ظهر بعير السلام وتدفع بريطانيا وفرنسا لإعلان الحرب على ألمانيا في الثالث من الشهر نفسه، فكانت الشرارة التي أعلنت اندلاع الحرب العالمية الثانية".

أما الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تلك الحرب فقد كانت تكمن في فشل النظام الدولي السياسي ممثلا في عصبة الأمم من أن يكون "أداة فعّالة لإقامة سلام عادل ودائم ونظام دولي قائم على مبدأ حق الشعوب كافة في تقرير مصيرها بنفسها، وعلى الاحترام الكامل للاستقلال السياسي وسلامة أراضي الدول الأعضاء فيها."
وعلى الجانب الاقتصادي، جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1931، التي أصبحت تعرف باسم "الكساد الكبير"، كي تقصم ظهر التوازن الدولي وترغم الدول الاستعمارية الكبرى على "تنظيم" العلاقات بينها من خلال الحروب، حيث لم يعد للطرق السلمية الحضارية مجالا كي تكون الأداة التي تنظم الصراعات بين تلك الدول.

ويلخص العديد من الأبحاث العلمية الرصينة تلك الأسباب في رفض هتلر الاستمرار في الخضوع لمعاهدة فرساي التي جردت ألمانيا من بعض مستعمراتها، وتنامي قوة الأنظمة الفاشية في ألمانيا وإيطاليا واليابان، واجتياحها لمناطق لم تكن تحت سيطرتها. واندلاع حروب متفرقة مثل تلك التي حدثت بين اليابان والصين في العام 1937، وإجحاف حق إيطاليا من حصتها التي تم الاتفاق عليها بعد الحرب العالمية الأولى.

نظرة فاحصة للمشهد الدولي اليوم، وفي خلفيته مشهدي الظروف التي سبقت الحربين الأولى والثانية تكتشف الكثير من السمات المشتركة بين مشهد اليوم ومشهدي الأمس، الأمر الذي ينذر ان ما نراه اليوم من أحداث دموية متفرقة، ربما تكون المقدمات لحرب كونية ثالثة، لكن لا تخوضها الدول العظمى مباشرة، بل تدفع حلفاءها من دول العالم الثالث لخوضها نيابة عنها.

تبدأ الحركة الأولى في سيمفونية الحرب الكونية الثالثة التي نتحدث عنها بحادث الاعتداء على البرجين في الولايات المتحدة في العام 2001، وتتالى الصدامات التي أخذت تفجيرات ضخمة أحيانا وحروب محدودة، تشارك فيها بحذر، وفي نطاق محدود محسوب بدقة، قوات دول عظمى مثل بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة، أحيانا أخرى.

فعلى المستوى السياسي لم تعد الأمم المتحدة هي الوعاء الدولي القادر على تنظيم الصراعات بين الأمم، ويكفي أن نراقب فشل محاولات تهدئة، ولا نقول إيجاد حل شامل مقنع، الجبهة السورية أحد المؤشرات الدامغة على هذا الفشل.

أمّا على المستوى الاقتصادي، فالأزمات البنيوية التي مست عصب الاقتصاد العالمي والتي تتكرر بوتائر متسارعة منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، جميعها تنذر، إن لم تكن تشهد على اندلاع حرب كونية، لكن تخوضها دول صغرى بالنيابة عن أسيادها من الدول الكبرى، تحاشيا لتوسيع نطاق الحرب إلى دوائر ربما تقود إلى فناء الكون.

تعليق عبر الفيس بوك