أخاديد الجليد..

عائشة البلوشية

قبل أخدود الخصيب، وصلتنا تباشير أخدود الودق الذي تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي، وبدأت زخات المطر المتوسطة والغزيرة تتوزع بأمر ربها على شمال السلطنة ودولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، وتراكمت السحب وأرعدت السماء على محافظة الباطنة شمال، ونثرت ما في جوفها من لآلىء بيضاء جميلة، وظن الناس أنها ما تلبث أن تضمحل بعد أن ترتطم بالأرض، ولكن انتقلت إلينا مقاطع الفيديو والصور التي تظهر لنا مناظر ترسم الابتسامة والدهشة على وجوهنا، حيث شاهدنا جبالنا ومساحات من الأراضي الممتدة، وحدائق ونخيل وظهور الإبل والطرقات مكسوة بالثلج، بل الأجمل ذلك المنظر البديع للأطفال وهم يتقاذفون كرات الثلج -المؤلمة-، فهي كرات من البرد الصلب وليست ندفا من الثلج، ولكن الطقس جعلهم يعيشون جوا من أفلام الإعلام الغربي، فصنعوا رجل ثلج عُماني جميل، واكتست القلوب بالفرح وانعكس بياضها على تلك المساحات، مقاطع لم أشهد مثلها في حياتي قط، ولم يذكر أحد من الأهل أنّه رأى مثلها في حياته، فكانت ظاهرة جديرة بالتوثيق الإعلامي المصور، وتكررت الظاهرة ولله الحمد في أخدود الخصيب، فرأينا وادي محرم بوﻻية سمائل بمحافظة الداخلية يتحول إلى ركن أوربي الشتاء، واكتسى الجبل الأخضر بالبياض العجيب، ما أجمل نعمة الغيث التي تغسل كل شيء تقع عليه وتغلفه بالنقاء...

كانت إجابة جدتي -أطال الله في عمرها- عندما سألتها عن التوثيق المخزن في ذاكرتها حول ظاهرة هطول البرد بتلك الكثافة، أن قالت لي إنّه لم يسبق لها أن رأت ما رأته على شاشة التلفاز، ولم تسمع أيًا من أهلها يتحدث عن هطول البرد بتلك الغزارة، ولكنها تتذكر أنهم كانوا في قريتي الوادعة -العراقي- خلال الشتاءات القارسة البرد، يجدون شريحة من الجليد على أسطح المياه في الأحواض، وأما البرد فيتساقط ويتلاشى مباشرة، ويحاولون التقاط هبة الله من حبات البرد، قبل أن تلتهمها الأرض المتعطشة، فطفقت استحث ذاكرتها التي بدأت تخبو بسبب العمر حول ما تتذكره عن جمال السيوح والامتدادات بعد الأمطار، حيث تنتشر نبتة "الراعبي" على الجبال الصخرية المحيطة بولاية عبري بعد الغيث، لتنشر رائحتها الزكية جدا في الأجواء، وتكثر بذورها في الصيف والذي بدوره يجلب الطيور كالحمام والكفعان والصفارد والصبا والغفغاف والحقم وغيرها؛ وعن نبتة "العطيمان" التي كانت توجد في الكهوف وهي مشابهة لنبتة "الظفرة"، حيث كانت تستخدم في الماضي في تخدير الصد (الأسماك الصغيرة في المجاري المائية والأفلاج)، فقد كان الأطفال يبحثون عنها بعد مواسم المطر ليهرسون أوراق هذه النبتة بحصاة حتى تصبح ناعمة، ومن ثم ترمى في الماء، فتأكلها أسماك الباعية (الصد الأكبر حجما والذي يأتي مع وفرة الأمطار)، فتدوخ من تأثير النبتة ويقومون بصيدها وطبخها وأكلها؛ فضحكت قائلة بأنّ هذه الأنشطة هي مما يقوم بها الصبيان والفتية؛ أما ما تحفظه ذاكرتها جيدا -أطال الله في عمرها- وتتذكره بخوف هو تلك السحب التي يرونها تزحف نحوهم حتى يظنون أن السيل قادم نحوهم، ولكن ما تلبث أن تتحلل تلك السحب وتسقط كسفًا من الجراد على الأرض، فيأكل كل ما أمامه من خضرة، حتى أنّه يجرد النخل من خوص جريدها، ويتوالد بسرعة غريبة، ليخرج عليهم صغار الجراد (الدبى)، وهو أشد وطأة من الجراد، فهو يدبي على الأرض ويقضي على كل مظهر للخضرة تمامًا، ويدخل في ملابسهم، ويكسو فرشهم، أي أنّه يكتسح معالم الحياة عند غزوه ﻷي أرض، فما يكون منهم إلا صيده، والاحتفاظ به كغذاء، فتقول لي رغم أن الجراد كان عذاباً يوقعهم في مغبة الجوع بسبب اعتمادهم على منتجات مزارعهم وعوابيهم، إلا أنهم كانوا يصبرون ويحولون ابتلاء الله إلى مصدر غذاء حلال، فتقول كنا في حرب للبقاء إذا لم نجد ما نأكله سنموت، وعندما يختفي اللون الأخضر يبحثون عن ما يعينهم على الحياة حتى المحصول القادم..

منذ أن قدر لي خالقي أن أبصر النور في هذه الدنيا رأيت هجوم الجراد، ولكن ليس بالكم الذي روته الجدة الغالية، فقد أصبحت الحكومات تعد العدة لمثل هذه الهجمات التي قد تعطل الاقتصاد، وتقوم بعمليات الرش وغيرها من الإجراءات الاحترازية، وأتذكر أول (كفانة) -الجرادة ذات الحجم الكبير جدا- اصطدتها في حياتي، فقد تركت آثار تلك الزوائد المسننة على أصابعي، ومسمى الكفانة مستمد خيفانة من اللغة العربية الفصحى، فقد قال امرؤ القيس واصفا خيله: (وأركب في الروع خيفانة.. كسا وجهها سعف منتشر)، وبعد تلك الإصابة تعلمت طريقة الإمساك الصحيحة وكيفية نزع تلك المسننات المؤلمة من أرجل الجراد لتصبح آمنة، فسبحان من جعلني أشهد سقوط البرد بهذه الكثافة، وأسأله تعالى أن يبعد عنّا شر سحب الجراد...

وعودة إلى هذه النوعية الجديدة من المواسم المطرية، على الأقل في التوثيق الزمني القريب، نجد أنها مليئة بالنعمة والخير، ﻷنها تأتي بكميات لا بأس بها من الماء العذب، والذي بدوره يكون أحد أهم مصادر رفد المياه الجوفية في البلاد، وعلينا جميعاً التعامل مع هذه الثروة برقي وحذر، فإنّ أزمات العالم المقبلة لن تكون على النفط والغاز، بل إنّ النكبة ستكون في الماء والغذاء، وهذه دورة طبيعية في الحياة، ولنا في خطة سيدنا يوسف عليه السلام الإستراتيجية لاقتصاد مصر في زمانه، المثل الذي وثقه الله جل شأنه في القرآن الكريم، ليظل مذكرًا لنا بأهمية التخطيط واحتساب تقلبات الطقس والأحوال على مر الزمان، وها نحن نعيش حالة جوية ونعمة جديدة أرسلها لنا مقسم الأرزاق الذي نسأله دوام النعم، ونتساءل هل نحن على موعد مع تأريخ مناخي جديد؟!..

توقيع:
" لمن وقع عليه ظلم أخط: لا تخش شيئًا، ألا يكفيك ثقة قسمه تعالى: (وعزتي وجلالي ﻷنصرنك ولو بعد حين)".

تعليق عبر الفيس بوك