قصة مفجعة عن تقرير أهمل!

علي فخرو

الآن وأسعار البترول تتهاوى، وتتسابق دول البترول العربية الخليجية إما للاستدانة أو للسحب من صناديق الأجيال القادمة أو تقليص الدَّعم للمواد الغذائية وشتّى الخدمات، أو حتى التفكير فيما كان سابقاً محرّمًا، وهو فرض الضرائب على المداخيل، الآن وتلك الدول تتراجع بصورة مذهلة عن كونها دولاً ريعية ودول الرفاهية الاجتماعية، الأمر الذي سيستوجب تغيرات كبرى في الحياة السياسية في تلك الدول، الآن ومشاعر الذُّهول والحيرة والأسف تهيمن على المشهد دعنا نذكر، إن نفعت الذّكرى.

ففي العام 1981، أي قبل أكثر من ثلث قرن، طلب وزراء التخطيط في الدول الخليجية العربية السّت من الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية أن تدعو مجموعة من مفكّري وكتّاب ومثقّفي واختصاصيي دول المجلس لوضع " تصورلاستراتيجية بعيدة المدى تعمل في إطاره جميع خطط وبرامج التنمية في دول المجلس".

كانت خطوة رائعة دلّت على أن الأنظمة والمسؤولين كانوا يعطون أهمية لما تفكّر فيه وما تريده شعوبها، ولذلك تحمّس كل الذين دُعوا وعَقدوا عدة اجتماعات كانت غنيَّة في مناقشاتها ووطنيَّة مسؤولة في طرحها للأمور وتقديم توصيات بشأنها. وقد نوقشت سبعة عناوين كبرى تتعلق بالبترول والعمالة والاقتصاد والإدارة العامة وامتلاك المعرفة والتقنية وإصلاح التربية والتعليم.

إنَّ هذا المقال معني باسترجاع ما قدّم بشأن تخفيض الاعتماد على النفط، وإخضاع إنتاجه لاعتبارات التنمية، لقد كانت التوصية المفصلية تتعلق باعتبار البترول ملكية عامة وبالتالي الاحتفاظ بالجزء الأكبر من عائداته في بناء تنمية شاملة، بما فيها بناء اقتصاد بديل إنتاجي يولد فوائض كافية لاستمرار تنمية إنسانية مستمرة في المستقبل، وبما فيها أيضاً وضع جزء من العائدات في شكل أصول استثمارية آمنة مدرة لعائد حقيقي يمول المزيد من الاستثمار الاقتصادي المباشر، ويكون مصدر أمان للأجيال المستقبلية القادمة. ولذلك قدمت توصية جريئة وواضحة وهي أن تسعى دول المجلس إلى تخفيض نسبة مساهمة البترول في الناتج المحلي الإجمالي من50 في المائة في الثمانينات إلى نسبة 25 في المئة بحلول العام 2000، وتخفيض مساهمة البترول في تمويل النفقات العامة (الموازنة) والنفقات الإنشائية من نحو 82 في المئة إلى لا شيء بحلول العام 2000.

والسؤال: هل أخذت حكومات دول المجلس آنذاك توصيات التقرير محمل الجدّ أو حتى تبنّت بعضها؟ الجواب مع الأسف هو النفي، بل إن الحكومات تجاهلت ذلك التقرير الاستراتيجي المهم، وبذلك دخل طيَّ النّسيان.

اليوم نطرح سؤالاً آخر: ترى لو تبنّت دول المجلس تلك التوصيات المتعلقة بالبترول وبتغييرات جذرية في الاقتصاد، فهل كانت ستواجه الوضع الحالي وهي مغلولة الأيادي وبدون وضع اقتصادي ومالي متين قادر على مجابهة آثار أزمة هبوط أسعار البترول المفجعة الحالية والمرشّحة للامتداد في المستقبل؟

هل كان بالإمكان تلافي ما سيكتبه التاريخ من قصَّة حزينة مبكية عن التعامل غير الحكيم مع حقبة البترول على رغم ألوف التحذيرات، في شكل كتابات وندوات ونداءات سياسية، والتي حذّرت من عدم استعمال فوائض عائدات البترول في بناء اقتصاد إنتاجي وترسيخ تنمية إنسانية شاملة؟ وكانت تلك الأصوات تشير دائماً إلى أن البترول هو ثروة طبيعية ناضبة وأن فوائضه هي فرصة تاريخية يجب ألا تضيع.

قصة ذلك التقرير، الذي لاتزال الكثير من توصياته صالحة ليومنا الحالي الذي نعيش، هي قصّة العلاقة الملتبسة بين أنظمة الحكم وبين المفكرين والمثقفين. إنها فجوة بين أصحاب القرار وبين أصحاب العلم والمعرفة، والتي كتب عنها الكثير من الكتب.. شكوك وريبة بشأن نيات أصحاب الفكر والثقافة، وبالتالي بشأن كل ما يقدمونه من مقترحات، وبالطبع بشأن كل ما يمارسونه من نقد.

ولذلك فليس بمستغرب ما سمعته من أن بعض الوزراء ، ما إن قرأوا التوصيات التي قدمت آنذاك حتى سارعوا إلى تحذير قادة الحكم في بعض البلدان من الأخذ بالتوصيات، بحجة أنها ستنقص امتيازاتهم وستضعف سيطرتهم على مفاصل الدولة والمجتمع. إنها قصة الزبونية الأنانية التي لديها القدرة على أن تلعب على القيثارة وتغني بينما المدن تحترق والمستقبل يدمر.

دعنا من الزّمرة التي لا ترى في هبوط أسعار البترول إلا الأسباب الخارجية، ولا ترى فيه إلا ظاهرة مؤقتة وطبيعية. إننا ننبّه هنا إلى شيء آخر، إننا نتكلم عن بناء مجتمعات قادرة على مواجهة تقلبات الخارج بهدوء وبكفاءة عالية وبأقلّ التأثير على غذاء وخدمات المواطنين.

يسأل الإنسان نفسه: هل ستتعلّم أنظمتنا من دروس الماضي والتي أوردنا مثلاً واحداً منها، وتبني جسوراً بينها وبين المفكرين والمثقفين، أم أنه ما إن تهدأ العاصفة البترولية الحالية تعود حليمة إلى عادتها القديمة؟

إنه سؤال جوهري صادق جاد في مجتمعات الهزل والتثاؤب.

تعليق عبر الفيس بوك