مشروع التيار المدني البحريني: الوعاء التنظيمي

عبيدلي العبيدلي

حين يزاوج التيار المدني بين منطلقات العمل السياسي، ومنظمات المجتمع المدني بشكل مُبدع متطور، سيجد علامات الطريق الذي ليس أمامه سواه تحثه على البحث عن الوعاء التنظيمي الملائم للمزاوجة المبدعة، في التأسيس لعمل سياسي مؤثر، بين الشعارات السياسية، والحركة التنظيمية. وهناك هرمونية مطلوبة تنسق بين الإثنين: السياسي والتنظيمي، ماذا وإلا سيبقى البرنامج السياسي، ومعه منظمات المجتمع المدني عملاقاً ضخماً بسيقان صلصالية لا يصمد أمام أية هبة ريح، بل ربما يجد نفسه في مراحل معينة غير قادر على التماسك ذاتياً، ما لم تسنده قوائم صلبة راسخة. هكذا شأن مشروع التيار المدني الحالي، فما لم ينجح التيار في تثبيت نفسه على ساحة المشهد السياسي ببرنامج تنظيمي متماسك قادر على نقل ما يرد في البرنامج السياسي من مستواها النظري المجرد، إلى أرض الواقع الملموس، فسوف يصدم التيار ذاته، بأنّه ومعه المشروع الذي يحمله باتا على أبواب مرحلة الذوبان التدريجي قبل الوصول إلى مرحلة التهاوي.

وليست هناك من مقولة يمكن أن نستهل بها خطوات العمل التنظيمي أفضل مما جاء في مقالة كتبها فقيدنا الراحل عبد الرحمن النعيمي وهو من القادة المؤسسين لمشروع التيار المدني، حين قال في إحدى الصحف المحلية "قد مارسنا عملية الإقصاء، وتمسكنا بنظرية (الفرقة الناجية)، ليس فقط وسط الوطنيين والديمقراطيين، بل وسط التيار الماركسي نفسه، فلمَ لا يؤمن حرفيًا بما نقول... وما نراه وما نرسمه من خطط... فقد يكون مندسًا... ثورة مضادة... يشكل خطراً على القيادة... ولا بد من إبعاده... ومراقبته... وتصفيته إن لزم الأمر... فالثورة تقوى بتطهير نفسها... والحزب يقوى بتطهير نفسه... إلى آخره من مقولات ماركسية أو لينينية قيلت في لحظات معينة لكنها لا يمكن أن تكون صائبة باستمرار... إلا إذا وضعت في سياق ظروف مشابهة للظروف التي تحدث عنها صاحبها."

في تلك الفقرة "النعيمية"، إن جاز لنا القول إشارة واضحة لتلك الحوارات التي دارت في صفوف الحركة الاشتراكية بين الجناحين الرئيسين فيها، الأول بقيادة لينين، في مواجهة التيار الذي يقوده كاوتسكي، الذي اتهم حينها بتحريف الفكر الماركسي، ووصم بالارتداد عنه. وكان الخلاف حينها محتدماً حول مسألتين أساسيتين: هما البرنامج السياسي، والإطار التنظيمي الذي يتم من خلال مؤسساته تنفيذ ذلك البرنامج.

لقد كان المفهوم اللينيني للحزب، حينها، يقوم على ست ركائز، الأهم بينها "الحزب يمثل وحدة إرادة الطليعة العمالية. والحزب يقوى بتطهير نفسه من العناصر المترددة والانتهازية في فترات النضال الحاد مع البرجوازية." وهكذا كان الصراع، فبينما كانت أحزاب الأممية الثانية ترى في الأحزاب السياسية إناءً حاضناً للعمل الإصلاحي السلمي من خلال مؤسسات الدولة القائمة، كان لينين يرى فيها الطليعة التي تقود الثورة من أجل الإطاحة بالبرجوازية، معبرًا عنها النظام القيصري.

ربما يكون ذلك تبسيطًا مختزلاً للصراعات التي احتدمت داخل صفوف الحركة الاشتراكية حينها، لكنها تمدنا، إلى درجة بعيدة، بالشكل التنظيمي الذي يمكن أن يبحث عنه التيار المدني، الذي عليه أن يختار بين مشروعين تنظيميين: الأول هو ذلك النمط اللينيني، الذي يعتبر حزب البروليتاريا طليعة قوى التغيير، وعليه أن يقوى بتطهير نفسه من كل العناصر المندسة في صفوفه، تقودها "برجوازية صغيرة" لا يمكنها، جراء انتمائها الطبقي، أن تتسلح بالفكر الثوري الذي يحتاجه الحزب اللينيني، وبين ذلك التيار الإصلاحي الذي يرى في الحزب وعاء فضفاضًا، لكنه متمسك أيضا، يقود عملية التغيير السلمي التدريجي الذي ينقل المجتمع من مرحلة إلى أخرى أفضل منها، من خلال تجييش أوسع قطاع من صفوف الشعب الراغبة في عملية التغير السلمي تلك.

الوصول للخيار الصحيح في صفوف التيار المدني، وليس في إطار رأسه القيادي فحسب، تفرض الحاجة إلى نضال متمرس يقتلع جذور السلوك اللاواعي التنظيمي الذي ورثته قيادات التيار المدني، دون أن يحق لأحد إن يتهمها بما يجردها من حسن نواياها وصدقها. فالمقصود باللاوعي التنظيمي هنا، هو تلك التجربة المتراكمة الغنية لكنها تستمد جذورها من النموذج التنظيمي اللينيني، الذي يقول الواقع الحاضر الذي تولد من التطورات الدولية قبل الإقليمية والمحلية، أنه لم يعد ملائماً للعمل السياسي في البحرين، إن أراد التيار المدني أن ينجز المرحلة عبر أقصر الطرق، وبأقل الخسائر الممكنة.

وقراءة معمقة للواقع الذي تعيشه البحرين اليوم، وأخذا في الاعتبار تداعيات الحراك السياسي الذي عرفته البلاد خلال السنوات الأخيرة، يمكن القول إنّ النموذج التنظيمي الكاوتسكي - مع التحذير من النقل الشكلي-هو الأكثر مناسبة للنضال من أجل بناء تيار مدني مؤثر في العناصر الفاعلة في الحياة السياسية في البحرين. نقول ذلك دون الحاجة للدخول في تفاصيل تلك النقاشات التي عصفت بالحركة الاشتراكية حينها، ودون القول بنسخ النموذج الكاوتسكي بشكل أعمى.

فحتى الأخذ بالنموذج الكاوتسكي الفضفاض، يتطلب صيغة تنظيمية مُبدعة تقرأ بعناية فائقة، وبتجريد لا متناهٍ، شكل الوعاء التنظيمي الأكثر ملاءمة للمرحلة الراهنة، آخذة بعين الاعتبار التحولات الاجتماعية التي أفرزتها العولمة، على المستوى الدولي، والتداعيات الإقليمية العاصفة التي تمخضت عنها الثورة الخمينية التي عرفتها إيران في نهاية العقد السابع من القرن الماضي، وإفرازات الحراك السياسي العربي الذي تراكم منذ هزيمة حزيران 1967، وما رافقها بعد فترة قصيرة نسبياً من ارتفاع غير مسبوق في أسعار النفط، وصل ذروته مع حرب أكتوبر العربية - الإسرائيلية في العام 1973، وانفجر في شكل أعمال عنيفة امتدت من تونس حتى اليمن.

وفوق هذا وذاك، وكي يكتمل إطار الصورة، لا بد أن يقرأ التيار المدني، قبل أن يختار الوعاء التنظيمي الملائم، وبعناية فائقة، كل التحولات التي عرفها المشهد السياسي البحريني منذ انطلاقة المشروع الإصلاحي في مطلع القرن الحالي.

وكلمة حق وانصاف لابد من قولها هنا، عند الحديث عن المهمات التنظيمية، وهي أنها - أي المهمات -وفي الظروف البحرينية القائمة، مهمة في غاية التعقيد، وبحاجة إلى إرادة جريئة، ومواقف صلبة، وفوق هذا وذاك خبرة غنية، لا يحق لأحد نفي توفرها لدى قيادات التيار المدني.

تعليق عبر الفيس بوك