مولد النور.. وظلام الأمة

صالح البلوشي

يحتفلُ المسلمون، غدا، الذي يوافق الثاني عشر من ربيع الأول في أنحاء العالم بذكرى ميلاد النبي محمد -عليه أفضل الصلوات والتسليم- حسب الرواية الأشهر؛ إذ أإن هناك عدة روايات حول تاريخ مولده منها: رواية يتبناها أتباع المذهب الشيعي، وهي أن ولادته كانت في السابع عشر من ربيع الأول.

وقد اختلف أتباع المذاهب الإسلامية في المشروعية الدينية للاحتفال بمولده الشريف؛ فهناك من أفتى بجواز ذلك تحت عنوان: أنه من البدع الحسنة، التي أجازها العلماء، وهناك من يقول: إنه بدعة محرمة، وأنه لو كان خيرا لعمله الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب الإسلامية، وهذا الانقسام الذي يحدث كل عام في مناطق كثيرة في العالم الإسلامي يخلف أحيانا ضحايا كثيرين؛ بسبب قيام بعض الجماعات الدينية المتطرفة بتفجير بعض الأماكن التي تقام فيها الاحتفال بالمولد؛ مما ينتج عنه قتل العشرات وأحيانا المئات من المحتفلين الذين يتجمعون للتعبير عن فرحتهم بهذه المناسبة، وقد وصل الأمر ببعض المنكرين لمشروعية الاحتفال بالمولد إلى تضليل وتكفير كل من يجيز الاحتفال بهذه المناسبة، وأذكر أني قرأت كتابا في نهاية ثمانينيات القرن المنصرم بعنوان "الذخائر المحمدية" لمفتي المالكية، في المملكة العربية السعودية محمد بن علوي المالكي الحسني، أجاز فيه الاحتفال بالمولد، وضم في الكتاب أيضا قصائد ومدائح نبوية كثيرة، فرد عليه رجل الدين السعودي عبدالله بن سليمان بن منيع، بكتاب أسماه "حوار مع المالكي في رد ضلالاته ومنكراته"، وطالب فيه بمنع الرجل من إلقاء المحاضرات والخطب الدينية بدعوى أنه رجل "ضال مضل".

وهذا الخلاف في حكم الاحتفال بالمولد النبوي هو حلقة صغيرة من سلسلة طويلة من الخلافات والانقسامات التي تعصف بالمسلمين منذ أربعة عقود تقريبا، وخلفت -حتى الآن- ملايين القتلى في العراق وسوريا وباكستان وأفغانستان...وغيرها، وقد بلغت ذروتها بعد الغزو الأمريكي الغاشم للعراق واحتلال هذا البلد سنة 2003، الذي ولّد انفجارا طائفيا في المنطقة لم ينتهِ حتى الآن، حتى وصل إلى درجة أنه أصبح الانتماء الطائفي إلى هذا المذهب أو ذاك جرما لا يغتفر عند الطائفة الأخرى، يؤدي بصاحبه إلى الموت حرقا أو ذبحا، ولم ينجُ من هذا المرض حتى كثير ممن يزعمون أنهم ليبراليون وعلمانيون، بل وجدنا حتى الملحد يظهر العملاق الطائفي في لا شعوره فجأة ويتحدث عن إساءة الشيعة للصحابة، أو مظلومية علي بن أبي طالب في السقيفة.

ويأتي الاحتفال بالمولد النبوي هذا العام، والمسلمون منقسمون إلى شيع وأحزاب وتحالفات مختلفة؛ فهناك تحالف يقصف منذ أكثر من تسعة أشهر اليمن، بحجة إعادة الشرعية والقضاء على تمرد الحوثيين وأتباع الرئيس السابق علي عبدالله صالح، مع العلم بأن بعض أركان هذا التحالف يقودون معركة أخرى في سوريا لإسقاط الشرعية، التي تتمثل في الرئيس بشار الأسد؛ عن طريق دعم بعض الجماعات الإرهابية المسلحة التي تعيث في أرض الشام فسادا وقتلا وتدميرا، بعد أن أسهموا سابقا في إسقاط شرعية أخرى في ليبيا، وجعلوا من هذا البلد العربي الغني مرتعا خصبا لفساد وإجرام الجماعات الإرهابية والمتطرفة. ويأتي الاحتفال بمولد خير البرية هذه السنة والأمة تحارب بعضها بعضا، وتقتل بعضها بعضا، وكل فريق يكفر الآخر ويستحل دمه وعرضه وماله؛ فهذا مسجد شيعي يؤمّه "الروافض" ويجب تفجيره وقتل من فيه، وذاك مسجد سني يصلي فيه "النواصب الذين يكرهون أهل البيت" فيجب اقتحامه وقتل المصلين بداخله، وهناك مقام يحتفل فيه الصوفية بالمولد النبوي، فيجب العمل على إزالة هذه "البدعة المحرمة" وتفجير المقام على رؤوس المحتفلين.

ومن المؤسف أنه في الوقت الذي ترتكب فيه جميع هذه الجرائم البشعة باسم الدين، لا نجد أي دور لعلماء الدين والمؤسسات الدينية في الدول العربية من أجل إيقاف هذا الزحف التكفيري الإرهابي الأعمى والاصطفاف الطائفي، بل نجد تصعيدا لذلك؛ فمجلة "الأزهر" -على سبيل المثال- التي تصدر من جامعة إسلامية عريقة وهي الأزهر الشريف، نشرت قبل عدة أشهر مقالا للكاتب المصري محمد عمارة -المحسوب على المفكرين الإسلاميين التنويريين- كفّرَ فيه الشيعة ووصفهم بأبشع النعوت، وقامت المجلة في العدد نفسه بتوزيع كتابا قديما مجانا، بعنوان "الوشيعة في نقد عقائد الشيعة" لموسى جار الله التركستاني على قراء المجلة، وأما الشيخ يوسف القرضاوي فقد انتقل من العمل الدعوي الذي كان فيه طوال سنوات عمره إلى التحريض على الحكومات العربية من أجل إسقاطها، بل وصل به الأمر إلى الاستنجاد والتوسل بالولايات المتحدة من أجل التدخل العسكري في سوريا، بعد أن أجاز هذا التدخل في ليبيا وأعطى له شرعية دينية، إلى جانب مئات القنوات الفضائية التي تمولها منظمات مشبوهة ودولا لنشر السموم الطائفية بين المسلمين، ولا هَمّ لها سوى الطعن في الصحابة وبعض زوجات الرسول أو تكفير الشيعة والصوفية والزيدية والدعوة إلى قتلهم.

وإذا كان المسلمون يختلفون في قضية فرعية لا تمس الدين أو الإيمان، وتُسال الدماء أنهارا جراء ذلك؛ فكيف يمكن الحديث عن "الوحدة الإسلامية" التي تقام من أجلها المؤتمرات والندوات بهذه المناسبة ويشارك فيها علماء من مختلف المذاهب الإسلامية في دول مختلفة وتُصرف عليها ملايين الدولارات؟ أما كان الأولى أن تُصرف هذه الأموال الضخمة إلى الفقراء واليتامى والمساكين في إفريقيا وآسيا؟ بدلا من الحديث عن "وحدة إسلامية" يؤمنون بها في داخل قاعات المؤتمر وأمام شاشات التليفزيون، ويسخرون منها ويتبرؤون من الدعوة إليها في غرفهم واجتماعاتهم الخاصة؟ وأخيرا: نسأل الذين يحتفلون بالمولد النبوي من أتباع المذاهب المختلفة: لو كان رسول الله يعيش بيننا اليوم، فهل كان سيرضى بما يفعله المسلمون اليوم تحت شعار الانتصار للدين أو المذهب؟

تعليق عبر الفيس بوك