تجمعهم الزنازين وتفرقهم الميادين!

فؤاد أبو حجلة

يستفزني كثيرا مصطلح "الثوابت الوطنية" عندما يردده السياسيون في المناسبات الجماهيرية التي يتطلب الخطاب فيها ملامسة الشعور الجمعي بمحتواه الغرائزي والاستجابة للمزاج الشعبي المنحاز دائما إلى الحدية والتطرف في الموقف.

في الواقع لا توجد ثوابت وطنية قادرة على الصمود في كل المراحل وأمام كل الاستحقاقات، ولو كان الأمر على هذا النحو لكان العالم كله يعيش في تناحر وحروب بين كل الكيانات والمكونات السياسية.

وفي السياسة لا يوجد مطلق قادر على الصمود أمام الحسابات النسبية، سواء على مستوى الدول، أو الأحزاب والمنظمات الجماهيرية، أو حتى على مستوى الأفراد المنخرطين في العمل العام.

كل قناعة وكل نهج وكل قرار خاضع للتغيير في اللحظة السياسية الحاسمة، ومن يقرأ المشهد بواقعية يرى كيف تنقلب الدول على نفسها، وكيف تنقلب الأحزاب على شعاراتها، وكيف يرتد الأفراد عن قناعاتهم العقائدية.

من بعيد، وفي حوارات الصالونات، يسهل وصف هذا التغيير بالانتهازية، ويمكن اتهام المتغيرين بخيانة مبادئهم وأفكارهم وأوطانهم انطلاقا من الاستنتاج السهل بأن التغيير مدفوع دائما بمصالح مشبوهة.

لكن المتهمين (بكسر الهاء) لا يشخصون عقم الجمود والثبات على مواقف فقدت جدواها وقيمتها بتغير المراحل وتغير الواقع السياسي والمجتمعي سواء في جغرافيا الصراع أو في العالم الكبير. العالم يتغير، وكذلك نحن المحاصرون من كل الجهات.

أكتب الآن وأنا متهم بالردة وبالخيانة، بحسب ما جاء في رسالة من صديق قديم جمعتني به زنزانة واحدة في سجن عربي قبل ثلاثين سنة، وأدهشه وجودي في الإعلام العربي في زمن الانحطاط السياسي والفكري والاجتماعي!

لم ينتبه رفيق السجن إلى أننا تغيرنا خلال ثلاثين عامًا من الحياة في وطن كبير كل ما فيه صغير، ويبدو أنه ما زال يرى الدنيا بذات العيون الصافية الزرقاء التي كان يرى بها واقعنا المتمرد والرافض لكل شيء في زمن المعارضات النظيفة. وربما حال نقاؤه الفطري دون رؤيته لبشاعة التشوهات التي أصابت المعارضات التقليدية وحولتها إلى بنادق وخنادق للإيجار.

كان صاحبي إسلاميا، وكنت يساريا. وظل على إسلاميته السياسية مثلما ظللت قابضا على يساريتي. وكذلك كان مسار رفيقينا الآخرين في الزنزانة رقم 10، فقد تمسك أحدهما بتوجهه القومي، بينما واصل الآخر الترويج لقناعاته الليبرالية كتابة وخطابا.

كنا جميعا، في ذلك الوقت، مؤمنين بضرورة الحسم بالعنف الجماهيري، وكنا متفائلين بقدرة الجماهير العربية على تغيير واقعها بطاقاتها الخلاقة والعملاقة. ولم يحل التباين في قناعاتنا العقائدية دون الإجماع على هذا الموقف الصحيح نظريا.

لكن صدمة الاكتشاف جاءت بعد الخروج من السجن إلى الحياة، وبعد الانخراط الكامل في السعي إلى التغيير انطلاقا من الثوابت العقائدية التي هيأت لنا أن بلادنا مسكونة بالملائكة وبالثوار.

لم نر ملائكة ولا ثوارُا، بل مجتمعات يأخذ فيها الصراع أشكالا مشوهة تقود إلى خيارات مختلفة لكنها غير ملائكية وغير ثورية. وصدمتنا مجتمعاتنا التي رأينا فيها حواضن لليمين السياسي ولليمين الديني ولم نر فيها ملاذا مهما كان صغيرا، لنا ولقناعاتنا الثورية المتأسسة على تصديق الوهم.

بتلقائية طبيعية، دخلنا مرحلة المراجعات، وخرجنا باستنتاجات واقعية تحررنا من العبث النظري، وتعيد إلينا إحساسنا بالحياة، كما هي وبلا رتوش.. صعبة ومخيفة ولا يقين فيها.

آنئذ كان لا بد من إعادة النظر في "الثوابت" التي لم تكن ثابتة. وكان لا بد للذات الفردية من أن تعيد تشكيل نفسها، ولو من باب الحرص على البقاء. وكان لا بد أيضا من إعادة فهم الواقع بكل مكوناته الصعبة.

كان ممكنا، بل وضروريا أيضا أن نحافظ على نقائنا وعلى تجردنا من نزعة الارتقاء المصلحي الشخصي في مجتمعات يأكل فيها الكبار صغارهم. لكن الاستمرار في الدعوة إلى الطهرانية الثورية كان نوعا من الخبل السياسي الذي يقود المصاب به إلى العزلة الكاملة، ولم نكن نحتمل العزلة.

لذا، انخرطنا في الحياة، وفي العمل، ولم يضرنا (بضم الياء وكسر الضاد) ولم يضرنا (بفتح الياء وضم وتشديد الضاد) أن نحتك بأعدائنا الطبقيين والسياسيين، وأن نتفاعل مع بيئاتنا التي اكتفشنا أنها لم تكن مفصلة على مقاساتنا. لكننا حافظنا على المسافة بيننا وبين أعداء الوطن والأمة كلها، واحتفظنا برفضنا المطلق لوجود اسرائيل على تراب عربي.

هل كان ذلك كافيا؟

أزعم أنه إنجاز فردي يسجل لصاحبه بغض النظر عمن يكون أو أين يكون.

ما الذي يتوقعه رفيق السجن من عربي حاصره الفقر والخوف والشك في شبابه؟ وماذا يتوقع صاحبي الاسلاموي مني وأنا في الستين؟ هل يريدني أن أحمل السلاح دفاعا عن "داعش" أو أن أكتب في تأييد الإرهاب القاعدي؟

ولماذا يريدني أن أحافظ على عدائي للنظام القمعي في الشام، ولحكم الملالي في قم، وللتدخل الروسي في أرض العرب وفي سمائهم أيضا، ولا يدعوني إلى معارضة الرجعيات الأخرى الحاكمة في بلادنا، وإلى العداء للامبراطور العثماني الجديد وللاستباحة الأمريكية والغربية السافرة والسافلة لأرض العرب وسمائهم وبحرهم؟

كانت تجمعنا الزنازين، وقد فرقتنا الميادين في "ربيع العرب" البائس. لكنني لم أتغير كثيرا يا صاحبي. أنت تغيرت كثيرا حين نسيت حربك مع إسرائيل.

تعليق عبر الفيس بوك