تأملات في الدُّنيا والدِّين

علي المعشني

"لو حبيبك نفط لا تلحسه كله"

يقول المثل الشائع: "لو حبيبك عسل لا تلحسه كله"، وفي اليمن الشقيق يقولون: "لو حبيبك عسل خلي منه وصل"، والمثلان يدعوان إلى عدم التفريط في الحبيب وترك صلة معه وشيء من الذكرى والجميل. ونحن في أقطار الخليج استبدلنا العسل بالنفط، والذي أصبح عصب حياتنا، ورئة نتنفس منها الحياة والتنمية ونرى من خلالها العالم والمستقبل معًا.

فثقافتنا نفطية وفكرنا نفطي ومزاجنا متأرجح مع النفط وكالنفط، ونظرتنا للآخر نفطية، وسياستنا نفطية، وهوانا وحبنا نفطي كذلك، وأجسامنا كبراميل النفط. وفوق كلِّ هذا فكلُّ المؤشرات من حولنا توحي بأننا مصممون على لحس النفط كله دون رد الجميل له، ولا إيجاد بدائل له تقينا من التسول على قارعة التاريخ والتنمية، وتجعل من جميع منجزاتنا المادية آثارًا تشيخ وتندثر أمام أعيننا بلا حول أو قوة، بعد أن تكلَّست عقولنا كالنفط الصخري، ولم يعد تنفع معها تكرير أو تقنية مبتكرة لاستخراج المثمر والنافع من تلك العقول المتصلبة والمتحجرة في أعماق التاريخ والطبقات السُفلى للحضارة. وبهذا سيدوِّن التاريخ أنَّ مجتمعات الخليج هي أول مخلوقات على وجه الأرض تحدِّد نهايتها وتقرِّر مصيرها وتراهما بالعين المجردة، وتُفني نفسها وهي بكامل قواها العقلية والجسدية!! سبحان الله، ولله في خلقه شؤون.

دين ضد الدين

يقول الحقُّ تبارك وتعالى مخاطبًا نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (يونس 99).. بينما يقول الحديث: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يؤمنوا".

هناك تضاد ظاهري واضح بين الآية والحديث؛ فحرية الاعتقاد وحرية التدين أصل ثابت في الإسلام بموجب النص أعلاه وغيره من النصوص المثيلة، وهي قطعية الدلالة، على أنْ لا إكراه في الدين، فقد تبيَّن الرشد من الغي، وهدى الله عباده النجدين الخير والشر، فأصبحت كل نفس بما كسبت رهينة.

بينما الحديث قد ينحى منحى آخر وهو المعنى الظني له وهو "أمرت أن أقاتل المعتدين حتى يؤمنوا من "الأمن والأمان" والإسلام من "التسليم" ورفع الأذى عن الناس، على اعتبار أن النفس السوية ترفض وتُنكر كل فعل أو سلوك مشين مهما كان مصدره أو حجمه، قد يتسبَّب في أذى الناس وإقلاق راحتهم وأمنهم، كالسرقة وقطع الطرق والغش والجريمة والجنايات وما في حكمها، وقد يكون القتال مجازيًا كذلك بالنصح والترهيب والترغيب، كنُصرة الأخ "ظالمًا" أو مظلومًا، كما يقول حديث آخر. وهناك حديث آخر مشابه فحواه الأمر بقتال الناس حتى يقيموا الصلاة ويقيموا الشعائر، وهذا الحديث كان بعد السقيفة ومع حروب الردة ولربما مناسبته الانتصار للإسلام ووحدته نتيجه ما تعرض له من ظروف قهرية بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتي وضعت الإسلام برمته ورسالته على المحك، يكون أو لا يكون.

والمراد مِمَّا سَبَق هو الحث على فهم المعاني والدلالات العميقة للإسلام كدين سماوي عالمي وخاتم للأديان، بسماحته وسعته وسلميته واستيعابه العميق لجميع الأهواء والعقول والثقافات، ودعوته الصريحة للبشر بالإحسان والعمل الصالح والتسلح بالفطرة الإنسانية السليمة والتي تجعل البشر جميعهم مسلمين بالسوية والسلوك.

هنا فقط نستطيع القول بأنَّ الدين مُحرِّض للشعوب نحو الحرية والفكر والتطور والانعتاق من أغلال غثاء الموروث واجتراره؛ فالبشرية لم تتطوَّر باجترار الماضي وتناسله وإعادة إنتاجه، بل بنقده وتقييمه وتقويمه، حتى يصبح أداة رقي صالحة لكل زمان ومكان.

فالدين الذي لا يحفز العقل ويحرِّضه ويجيب عن جميع تساؤلات أتباعه ويُشبع تعطشهم المعرفي في فك "طلاسم" الحياة و"شيفرات" الخلق والوجود من حولهم، هو دين عاجز وقاصر، ويدفع بهم نحو القنوظ والشك واليأس والانخراط في محافل أفكار منحرفة عن السوية والفطرة الإنسانية.

يقول المفكر الدكتور علي شريعتي -رحمه الله- في كتابه "دين ضد الدين": "إنَّ الدين التبريري والدين التخديري والدين الرجعي والدين الذي لا يهتم لأمور الناس هو الذي حكم المجتمعات البشرية عبر التاريخ. إذن لابد أن تصدق الذين قالوا: إن الدين هو وليد المخاوف والإقطاع، وأنه دين تخديري ورجعي لأنهم استنبطوا ذلك من التاريخ، غير أنهم لم يعرفوا الدين حق معرفته لأنهم لم يكونوا متخصصين بمعرفة الدين، بل كان حقل تخصصهم التاريخ، وكل من يراجع التاريخ يرى هذه الحقيقة مُتجلية في الأديان جميعًا؛ سواءً تلك التي حكمت باسم دين التوحيد أو تلك التي حكمت بصراحة باسم دين الشرك".

العلمانيون العرب

تتصاعد الدعوات اليوم أكثر من أي وقت مَضَى من قِبَل من يُسمُّون أنفسهم بالعلمانيين العرب إلى ضرورة تطبيق العلمانية في الأقطار العربية وفصل الدين عن الدولة تأسيًا بالغرب وللحاق بركب التطور والتقدم والحفاظ على مكونات الأوطان ومقدراتها وإشاعة المواطنة كهوية جامعة للكل.

ونحن نقول: إذا كانت العلمانية هي الفصل ما بين الدولة الدينية والدولة المدنية؛ فجميع الأقطار العربية وبلا استثناء دول مدنية وعلمانية، ومنذ نشأت دولة الاستقلال العربي؛ حيث لم تعلن دولة عربية واحدة بأنها دولة إسلامية دينية ولكنها عرفت بنفسها وفق الدستور بأنها دولة مسلمة بحكم الأغلبية، وفوق هذا فهي تقوم برعاية دور العبادة ومسؤولة عنها وفق هذا التعريف الدستوري والقانوني، كما تقوم الدولة العلمانية في الغرب برعاية الكنيسة وأتباعها.

يُضاف إلى ذلك أنَّ الدولة العربية المدنية اليوم ومنذ قيامها، أسلمت الشق القانوني المتعارف عليه بالأحوال المدنية أو الشخصية كضرورة تشريعية تنسجم مع دساتيرها كدولة مسلمة جعلت الشريعة مصدرًا من مصادر التشريع، وراعت هذه الدولة المدنية رعاياها ممن يُطلق عليهم مجازًا بالأقليات، وحفظت لهم تشريعاتهم ودور عبادتهم من مسلمين وغير مسلمين، وساوت بينهم تحت مظلة المواطنة في الحقوق والواجبات دون تمييز، وسلطنة عُمان أنموذج رائد في هذا التآخي، مع العلم بأن أي تجاوزات هنا أو هناك مردها الأعراف الاجتماعية وليست القوانين النافذة. وهذا التضاد ما بين القوانين والأعراف -إنْ وُجد- لم تسلم منه دولة في العالم ولا مجتمع بشري مهما بلغ من التطور والرقي والعلم.

ومن هنا، يُمكننا القول بأنَّ قطيعة الغرب مع الكنيسة نجحت في تحرره ورقيه، وقطيعتنا نحن مع الإسلام وعمق مقاصده نجحت في تخلفنا؛ فالعبرة ليست في المسميات واستيراد التجارب، بل في استنهاض الشعوب بما يتواءم مع أنماط حياتها ومعتقداتها بالنقد والعصرنة.

-------------------------

قبل اللقاء: يقول الإمام علي (ع): "لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه"... وبالشكر تدوم النعم!

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك