الثورة الحسينية ... في ذكرى أربعينيتها

 مصطفى محسن اللواتي
إن يفرق الشهيد عن الانسان العادي هو إن الثاني يقنع بالموت لينهي بذلك مرحلة ويدخل في اخرى ، بينما الشهيد يأبى أن يموت ، بل هو يعشق الحياة دائما وأبدا..

لا لنفسه ، ولكن للآخرين، لمن يأتي من بعده ، تستاف من تضحيته قيمة الحرية ، ومعنى الكرامة ، لتنعم بحياة كريمة أهداها لها الشهيد بدمه وتضحيته.

والمتتبع للنصوص الشريفة يلاحظ كم هي غالية قيمة الشهادة بحيث لا توازيها درجة أو قيمة ، فقد ورد "فوق كل بر بر ، حتى يقتل الرجل في سبيل الله ، فإذا قتل في سبيل الله عز وجل فليس فوقه بر" ، وما هذا إلا لأن الشهيد ينسى ذاته ، ويذوب في الآخرين وهمومهم ، ويعمل لاجلهم لكي يعيشوا سعداء ، لا يذلهم ظالم أو جبار، فيعطي حياته ثمنا للآخرين.

فالشهادة تضحية في سبيل الله للآخرين ، تضحية لا تعود بالنفع على صاحبها ، إذ هو يخسر حياته ليحيا غيره ، من هنا نفهم لماذا جعل الله الشهيد حيا يرزق ، أعطاه الله حياة أخرى عوضا عن تلك التي خسرها بتضحيته ، يحيا بها ، ويعيش الآخرون على ذكراها ، تزودهم بمعنى العزة والكرامة.

ولأن الشهيد ينسى ذاته ، ويذوب في الآخرين ، فإنه يتمنى لو قتل عشرات المرات ليهب الحياة لغيره ، وليعطي الكرامة والقوة لدين الله ، "ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع في الدنيا ، غير الشهيد ، فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة".

الشهداء ليسوا "أمة قد خلت" كغيرهم من البشر ، فهم معنا في كل عصر وزمان ، يهبون البشرية جمال الحياة ، ويأخذون بيد المستضعف إلى حيث القوة والبطولة والشجاعة ، وبيد المجتمعات إلى حيث العزة والكرامة والحرية والعدالة.

من هنا نفهم لماذا ركز الكتّاب بمختلف توجهاتهم واطيافهم على واقعة كربلاء ، ولماذا هذا التأكيد على شخصية سيد شباب أهل الجنة أبي عبدالله الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام حفيد الرسول الأعظم (ص).

فالحسين قدم وأعطى كل حياته في سبيل الله لكي ينهض بمجتمع مات ضميره ، وخمدت فيه عزته ، وضاعت كرامته ، استشهد لكي يبعث في المجتمع روح النضال ضد كل ما يعكر صفو الحياة الكريمة ، فأعطاه الله حياة خالدة أبدية لا تزال تحيي في الانسان ضميره ، وتذكره أن يكون حسينيا ، يعطي للآخرين ويعمل في سبيل إسعادهم.

ونحن في هذه الأيام ، نرى تلكم المسيرات المليونية التي تزحف مشيا إلى قبر الإمام الحسين بن علي ، متوجهة لزيارته في ذكرى أربعينية إستشهاده مع ثلة من أصحابه وأهل  بيته في أرض كربلاء ، يوم العاشر من محرم عام 61 للهجرة ، هذه المسيرات الضخمة التي تأتي لقبر الحسين الشهيد تعاهده على البقاء على نهجه ، وعلى طريقه في عدم الرضوخ لأي ظلم ، والمضي في طريق الشهادة والتضحية ، وسبيل العزة والكرامة والحرية.

وحين يشاهد المسلم كل هذه المسيرات الضخمة ، حتما سيتساءل ما هي تلك التضحية الضخمة التي قدمها هؤلاء الفتية مع قائدهم الحسين بن علي ، ولماذا خلدت هذه التضحيات وتلك الدماء بهذا الشكل العجيب فيما هناك حركات ثورية مناهضة للظلم لم تحظ بعُشر ما حظيت به هذه الثورة من خلود في الفكر والوجدان.

هذه المقالة ، ومن خلال بعض جوانب هذه الثورة وما رافقها من واقع ، تحاول إستشراف ما قدمه الحسين وصحبه ، وما إحتوته ثورة كربلاء من قيم ومباديء إسلامية عادلة ، وما قدمه قاتلوه من صور بشعة من الإنحراف الأخلاقي ، والفظاعة في القتل ، والظروف التي أحاطت بهذه الثورة ، والتي بالسكوت عليها كان يمكن لأمة محمد (ص) أن ينحرف مسارها عما خططه لها نبيها الأكرم (ص).

يزيد والمشروع الحضاري المحمدي

يزيد بن معاوية كان حلقة من خطة بدأها أبوه معاوية بن أبي سفيان في تغيير منظومة " الحضارة " التي أنشأها نبينا محمد(ص)، الحضارة التي أسست على أسس الأخلاق والقيم ، وعلى أسس الفكر والثقافة ، وأخيرا على أسس إعمار الأرض وتنميتها.

حضارة تنطلق من الفكر، وتؤسس لمنظومة مباديء وخصائص وقيم جبارة عميقة ، لتتحول إلى واقع أخلاقي يمارسه المسلم في كل تعاملاته مع نفسه وربه وبني جنسه وبيئته ، لينطلق هذا التعامل في حركة ديناميكية راقية ، وينعكس على إعماره لهذه الأرض التي أخذها الإنسان على عاتقه وحملها بعنوان "الأمانة" حين بدء الخليقة.

المتتبع للظروف التي رافقت نهضة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب حفيد رسول الله(ص) ، وابن بنته فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، سيلاحظ حتما أن المجتمع الإسلامي كان في سقوط مستمر، وهبوط سريع نحو قيم الجاهلية ، وكان يعاني من التداعي الحضاري الذي يصيب كل أمة تنتهج غير سبيل الرشد.

فالأمة التي كانت "خير أمة أخرجت للناس" فقد "خيريتها" ، فروح الرضا بالمنكر ، والتغاضي عنه ، وكذلك السكوت عن واجب الأمر بالمعروف سلباها هذه الخيرية.

والأمة التي أرادها الله أن تكون "وسطا" ، فقدت "وسطيتها" ، واستدارت نحو الإفراط والتفريط، فبين جبان خانع رضي بالذل وفقدان العزة، وبين لاه في مجالس الفجور، مقتديا بخليفة المسلمين آنذاك يزيد بن معاوية.

وكذلك فإن أمة "واعتصموا" فقدت "وحدتها" ، وفقدت تماسكها ، وبدأ الضعف والتفرق ينخر فيها ، فأصبحت أمة متفككة ، تفتقد الإسلام الصحيح والذي أسسه وبناه سيد المرسلين محمد(ص)

هذه العوامل مجتمعة ، مع عامل آخر أساسي ، هو أن القيادات المسلمة ، لم ترتفع لمستوى المسؤولية ، ولم تستطع أن تكيّف نفسها لمواجهة الواقع الفاسد ، مما أدى هذا إلى بروز قدرة القيادات الفاسدة المنحرفة ، والمنبثقة عن جهاز يزيد بن معاوية ، وتطويع نفسها لقيادة المسلمين.

ولأن القيادات المسلمة لم تعرف كيفية إستغلال عناصر القوة الموجودة بين الجماهير المسلمة لما فيه خيرها ، فقد استغلت القيادات المنحرفة نقطة الضعف هذه ، وبدأت بالسيطرة على الولاة وأولي الشأن ، لتجميع أكبر قدر من الجماهير حولها ، ثم بدأت بالسيطرة على العلماء ، لإكساب أعمالها شرعية ، وإعطاء ممارساتها صبغة دينية، ومن ثم بدأت بالسيطرة على الجماهير ، وقد تم لها كل ذلك عن طريق المال والإغراء بالمناصب ، وعن طريق التهديد بالقتل والحبس والتعذيب ن وأخيرا عن طريق الإرهاب الفردي والجماعي.

أراد يزيد من خلال هذا المشروع تعطيل الأمة، وقتل طاقاتها ، وزرع روح الخنوع والتبعية فيها ، لينزل بها حضاريا نزولا مروعا ، بعد أن كانت في أعلى درجات التحضر والنبل والكرامة ، على يد سيد الخلق النبي الأكرم محمد (ص).

لذا فالمجتمع الإسلامي كان بحاجة إلى قيادة بمعنى الفكر والحركة ، بحاجة إلى فكر يقدم الحلول للمشاكل التي ألمّت بالمجتمع آنذاك، فكر يستطيع رد كل شبهة بحجة قاطعة ، ودليل دامغ ، وبحاجة إلى حركة تتحدى وتغامر في سبيله بكل شيء، لا تخاف في سبيل الله لومة لائم ، ولم تكن تلك القيادة غير أبي عبدالله الحسين بن علي ، الذي قام بتلك النهضة ، فأوقف السقوط الحضاري لأمة جده المصطفى (ص)، واستطاع أن يؤسس لمن يأتي بعده روح التحدي والمقاومة لكل واقع فاسد ومنحرف.

يزيد والذاكرة الثقافية للأمة

ما نتحدث عنه هنا هو ما حاول يزيد أو لنقل " الظاهرة اليزيدية " - التي بدأت تطغي على المجتمع الإسلامي آنذاك - فعله في الذاكرة الثقافية ، حين حاولت هذه الظاهرة أن تغزو ذاكرة الإنسان المسلم من خلال تغيير عدد من المفاهيم الثابتة والتي رسمها القرآن العظيم من خلال رسوله الكريم ( ص) .

وبلا شك فإن هذا الغزو كانت له تداعياته على " المتغيرات المعاصرة " مما شكل تأثيراً كبيراً على كتابات عدد كبير من المفكرين والمؤرخين ووجه أقلامهم بطريقة أو بأخرى تجاه المفاهيم " اليزيدية" التي بلا شك كانت على النقيض مما طرحه الإمام الحسين بن علي من خلال ثورته العظيمة .

وكما يقال ليس أخطر من الأضرار بثقافة أمة ، ولعل هناك مقولة في رسائل أخوان الصفا  تقول :" إذا أردت أن تملك أمة ، فأشتر شاعرها بالمال " .

وهنا تكمن الخطورة ، فثقافة الأمة هي المحور لما عليه هذه الأمة من قوة أو ضعف ، من إستقامة أو عوج ، من تماسك أو تفكك .

إن المتأمل والقاريء لتاريخ الحضارة الإسلامية يلاحظ - بعد قليل من التمعن - أن الغزو الثقافي إبتدأ منذ عصر الأمويين الذين رفعوا عددا من المقولات التي ضربت أساس الذاكرة الإسلامية وضربت عددا من المفاهيم التي آمن بها الرعيل الأول كمسلمات بديهية جاء بها الإسلام.

حينما برزت " الظاهرة اليزيدية " حاولت جاهدة غرس هذه المفاهيم الخاطئة تبريراً لما تقوم به من محاولات قمع تجاه المسلم الواعي  لحركتها السالبة ، فالظاهرة اليزيدية طرحت أول ما طرحت مفهوم " عدم جواز الخروج على الحاكم " جائراً كان أو عادلاً واستندت في هذا المفهوم إلى فتاوى عدد من المسلمين عرفوا في ذلك الوقت - أو بعده - بالفقهاء والعلماء وذلك لقمع - بأسلوب شرعي - أي تحرك ضد حكم يزيد ، وأيضاً لإيجاد تبرير مناسب - نفسي - لمن لا يجرؤ على مقاومة يزيد وأتباعه .

كما طرحت هذه الظاهرة التي بدأت تتغلغل في كيان المجتمع مفهوم "الجبر" ، وهو مفهوم قد يراه كثير من المؤرخين أنه تبلور متأخرا نوعا ما عن عصر يزيد بن معاوية ، إلا أن هناك قرائن تؤكد أنه بدأ بمعاوية ، وظهر جليا في حوارات وخطابات يزيد وقائده إبن زياد، ومثالا على ما نقول ، ذاك الحوار الذي جرى في مجلس إبن زياد حينما وصل ركب أسارى كربلاء بعد مقتل الحسين بن علي إلى الكوفة ، وفيهم الأطفال والنساء ، وبينهم زينب بنت علي بن أبي طالب أخت الإمام الحسين ، وعلي بن الحسين المعروف بزين العابدين وبالسجاد لكثرة عبادته وسجوده، حيث سأله إبن زياد عن إسمه ، فرد عليه زين العابدين أن أسمه علي ، فقال إبن زياد: أو ليس قتل الله عليا، فقال زين العابدين: كان لي أخ يقال له علي، قتله الناس، فرد إبن زياد صارخا: بل قتله الله.

هذا المفهوم كان يتم طرحه مرة أخرى لتبرير أفعال الظلم والقتل وسفك الدماء والذي كانت تمارس من قبل بني أمية، وأنها من فعل الله وبقضائه وقدره.

حاولت الظاهرة اليزيدية إضعاف الإسلام في نفوس المسلمين من خلال تغيير الأوضاع الإجتماعية، وأنماط العلاقات بين الناس، بطريقة تجعلها قائمة على تعارض مع تصورات الشريعة الإسلامية وأحكامها، ولكنها في نفس الوقت كانت تسوق لتتسق مع ما يفعله النظام الأموي من ممارسات في المجتمع الإسلامي.

إن الظاهرة اليزيدية من خلال غزوها للذاكرة الثقافية الإسلامية حاولت أن تجد لنفسها مكانا بديلا عن مفاهيم الإسلام ومسلماته، لذا كانت خطورتها شديدة، خصوصا إن هذا الغزو كان قادما من الداخل، لا الخارج، ويمس عقل المسلم بالدرجة الأولى ، ويعبث به بعناوين إسلامية،.

هذه الخطورة التي أحس بها الحسين بن علي ، وحلل آثارها المتداعية ، ليس على أبناء عصره فحسب، بل على ثقافة الإسلام ومفاهيمه ككل ، حيث يستمر هذا التداعي في المفاهيم على العصور والأجيال، لتتلوث الثقافة الإسلامية، والفكر الصافي الذي جاء به جده محمد(ص) ليستنسير به العالم.

لذا قام أبو عبدالله الحسين(ع) بثورته العظيمة ، إنقاذا لهذه الذاكرة من الوقوع في فخ يزيد والأمويين.

المناقبية والمأساة والجريمة

إن الناظر لما حدث يوم العاشر من محرم على أرض كربلاء في عام 61 للهجرة ، سيلاحظ ثلاثة أمور أساسية جمعتها ثورة الحسين بن علي ، مما لم تجمعها أية حركة إصلاحية أو تغييرية على مر التاريخ:

شخصية القائد الشهيد ، فالحسين بن علي كان الشخصية الأبرز في المجتمع المسلم ، ولم يكن على وجه الأرض في تلك الفترة إبن بنت نبي غيره ، وكان هو الإمتداد الباقي من نسل رسول الله ، إضافة إلى ما ورد فيه من أحاديث كثيرة من رسول الله (ص) روتها كتب الصحاح والمساند من قبيل: "حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط" وأيضا "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة" وغيرها كثير مما يؤكد حب النبي (ص) ، وفضل الحسين وعظمة شخصيته ، فضلا عما ضمته شخصية هذا القائد من قوة وشجاعة ، وخصال مناقبية أخلاقية عالية ، ولم يكن لهذه الشخصية في تلك الفترة الزمنية نظير أو ند في مناقبه وخصاله ، ولا في وجاهته ونسبه ، ولا في بطولته وشجاعته ، مما كان يمكن أن يحدث هزة داخل الوسط الإسلامي لو أصابه مكروه ، فما بالك بقتله مع ثلة لم يتجاوز عددهم الثمانين ، كلهم من خيرة الناس ، ومن أكابر القبائل ، وفيهم من له صحبة مع النبي الأكرم (ص).

الجيش الأموي المجرم ، ذلك الجيش الذي وصل تعداده 30 ألف مقاتل ، وفي أقل التقديرات وصل إلى 4 آلاف مقاتل ، مسلح بأقوى أنواع الأسلحة ، جيش أرسله يزيد بن معاوية ، ذلك الذي حول أبوه الخلافة فيه ملكا عضوضا ، خمار مقامر يلعب بالقردة والخنازير ، وفي الجيش أمثال ابن زياد الذي لا يعرف نسبه ، وكثير ممن حملوا أوغارا وأحقادا على النبي وصحبه ، ولم يحسن إسلام كثير منهم ، ذلك الجيش الذي أتى لقتال 73 نفرا ، مارس معهم التعطيش ، والقتل ، والتمثيل ، وقطع الرؤوس ، ورض الصدور بالجياد ، وقتل الأطفال ، وترويع النساء ، والهجوم على مخيمات النساء بعد الواقعة ، وسلبها وحرقها ، وسوق النساء والأطفال مقيدين بالسلاسل ، وإركاب بنات بيت النبوة وفيهن عقيلة الهاشميين زينب حفيدة النبي المصطفى (ص) على نوق بغير وطاء ، وحمل رؤوس أهلها الشهداء على الرماح وبين وسط تلك النوق ، تنظرها النساء والأطفال طوال سوقهن من كربلاء إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الشام ، جريمة بشعة من مجرمين لم يعرفوا الدين والقرآن ، هذه الجريمة كانت كفيلة بإشعال الغيرة في الوسط الإسلامي الذي ماتت فيه روح الجهاد لولا هذه الثورة.

المأساة وأسلوب تحريكها في الأمة ، فبشاعة الجريمة ، وعمق المأساة وفظاعتها ، كان لا بد من إعلام يحركها في الوسط المسلم ليفعل هذه الهزة التي أرادها الحسين بن علي من خلال ثورته ، لذا فقد كان تخطيطه الإعلامي يتحرك في عدد من الإتجاهات:

قطع حجه فجأة ، فهو أمير الحجاج ، وكان الناس يأتون لمكة أفواجا ليحجوا بحجه ، وفجأة في يوم التروية يحول حجه لعمرة مفردة ، ويحل من إحرامه ، ويقرر الخروج من مكة ، ويصرح بوضوح أن يزيدا يريده مقتولا ، حتى لو كان متعلقا بأستار الكعبة ، وحرصا منه على حرمة مكة والكعبة ، فقد آثر الخروج ، كما أنه صرح بوضوح عن خروجه في قوله : "إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ، ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد ، أريد أن آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر.." ، هذه الحركة الفجائية وفي موسم كهذا الموسم جعلت الأفواه والعقول تتساءل ، وكل من لم يكن يعرف فقد عرف ، كانت خطة إعلامية رائدة بدأ الحسين بها ثورته.

أخذ معه نساءه وأطفاله وهو خارج لهذه الثورة ، وكانت نساء أنصاره وأهل بيته وأطفالهم في هذا الركب الثائر ، وقد عرف الحسين بحنكته أن الدعاية الأموية ستصور الحسين وصحبه بأنهم خرجوا على إمام زمانهم ، وستصورهم أنهم أناس متمردون أرادوا الفوضى بين المسلمين ، وستنجح هذه الدعاية إذا لم يتصدى لها من حضر المعركة ونقل الصورة الصحيحة ، لأن المعركة سيقتل فيها كل الرجال ، وتنتهي قصتهم بانتهائها وانتهائهم ، وكانت خطته واحدة من أروع الخطط الإعلامية التي تدل على نظر ثاقب وعميق للأمور ، ولواقع العرب آنذاك ، فالنساء والأطفال –كعادة العرب الجاهليين- سيتم سبيهم ، وسيساقون إلى الشام حيث مجلس يزيد ، وركب السبايا هذا هو وحده من يستطيع نقل أهدافه ، ونقل مأساته ، وتصحيح صورته أمام الدعاية الإعلامية الأموية ، وهكذا كان..

سار الركب ، وفيه زينب العقيلة أخت الحسين ، وفيه علي بن الحسين السجاد زين العابدين ، وفيه من فيه ممن كان يعول عليهم الحسين لنقل ما كان يريده من نهضته ، وفعلا أوصل ركب السبايا رسالة الحسين بوضوح ، ففي الكوفة كانت الحوارات الواعية بين السبايا والناس ، إضافة إلى عدد من الخطب أطلقتها زينب وغيرها بين أهل الكوفة ، كما أن الحوار الذي دار بين زينب وزين العابدين من جهة ، وإبن زياد من جهة ، في مجلس الأخير يعتبر واحدا من أكثر الحوارات وعيا وقوة ، وتعد مقولة زين العابدين التي أطلقها في وجه إبن زياد قنبلة لا زال التاريخ يرددها ، حين قال له: " أبالموت تهددني يا ابن زياد، أما علمت أن القتل لنا عادة ، وكرامتنا من الله الشهادة".

كما أن الشام والتي كانت غارقة في الدعاية الأموية السيئة عن هذا البيت النبوي الجليل ، وبدخول السبايا إليها ، تغيرت نظرتهم كثيرا ، وعرفوا من هم هؤلاء ، وكانت لخطبة زينب المدوية أمام يزيد أثرها العجيب حيث قالت له في بعض ما خاطبته : "أمن العدل يا ابن الطلقاء ، تخديرك حرائرك وإماءك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ..."

" فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا يرحض عنك عارها ، وهل رأيك إلا فند ، وأيامك إلا عدد ، وجمعك إلا بدد ، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين..".

هذا الركب إضافة إلى ما مارسه من دور إعلامي في توضيح أهداف الثورة ونشرها ، فقد كان له دور إعلامي ضخم في تصوير المأساة ومدى بشاعة الجريمة ، وكان نقل ما حدث على أرض المعركة وقتها ، وبأسلوب تراجيدي حزين ، يرافقه بكاء وأنين يصدر من النساء الثواكل ، والأطفال اليتّم ، وما يجري وجرى عليهم في السبي ، هذا التصوير العاطفي كان ينقل صورة المأساة ليخاطب الشعور والعاطفة ، وليخاطب الضمير والوجدان ، وكان يستثير في المسلم غيرته ، على الدين ، وعلى بيت النبوة ، وعلى المسلمين أجمع ، ويؤجج الرفض لبني أمية وأفعالهم ، ويضفي وهجا وديمومة للثورة في القلوب والواقع.

 

تحريك الوجدان، وهو دور تم التخطيط له قبل الثورة وبعدها ، فقد تم ربط الأمة بهذه الثورة ربطا عاطفيا من خلال التأكيد على المأساة ، وبشاعة ما جرى خلال الواقعة وبعدها ، وبالتشجيع على كتابة الشعر في الحسين –الوسيلة الإعلامية الأساسية آنذاك- وإحياء ذكره ، وبالتشجيع على زيارة قبره ، هذا الربط العاطفي بالحسين وثورته بدأه رسول الله (ص) حسب مرويات كثيرة ترويها كتب الشيعة ، ويمكن إيجاد عدد منها في كتب السنة ، واستمر إلى ما بعد مقتل الحسين من خلال أخته زينب العقيلة وأولاده الذين أتوا من صلبه من ولده علي زين العابدين.

إستطاعت العاطفة ، أن تكتب ديمومة للثورة الحسينية ، وأن تجعل وهجها مشتعلا في القلوب ، وساعدت المشاعر الجياشة ، والتي تصدر بشكل تلقائي حين سماع القصة المأساوية للواقعة في نشر هذه الثورة ، مع التأكيد أن هذه المشاعر كانت –ولا زالت- تشط أحيانا لتصدر منها تصرفات لم يرتضها الإمام الحسين لثورته ، إلا أن العاطفة العاقلة تظل هي الغالبة ، وهي التي تحكم في الأخير، ولولاها لما كتب لهذه الثورة كل هذا الخلود إلى يومنا هذا.

ماذا حققت الثورة الحسينية

إستطاعت الثورة الحسينية من خلال ما ذكرناه سابقا أ تحقق عددا من الأهداف التي رسمها الحسين بن علي ، والتي رسمها في عدد من بياناته التي أطلقها حال خروجه وإلى وقت إستشهاده ، نلخصها بعضها في الآتي:

تعرية الحكم الأموي والذي حاول معاوية ومن بعده يزيد إلباسه اللباس الشرعي ، وأنه حكم يقوم على كتاب الله وسنة نبيه المصطفى (ص) ، فقد إنكشفت فظاعة الحكم الأموي في دمويته ، وما فعله بحفيد رسول الله وبأهل بيته من قتيل وتمثيل وحرق للخيام وسبي للنساء ، وقد كان الحسين في أول تصريح له لرفضه بيعة يزيد قد حدد " إن يزيد فاجر فاسق ، قاتل النفس المحترمة ، ومثلي لا يبايع مثله " فكان تحديده لموقعه من الإسلام واضحا ، وأنه لن ينزل بهذا الموقع السامي ليبايع شخصا في مستوى يزيد من الدناءة.

بث الشعور بالإثم والندم في نفوس الساكتين على حكم يزيد ، فالحسين كانت له تلك المنزلة العظيمة في قلوب المسلمين ، لما كان يتحلى بصفات إيمانية وعلمية لا شك فيها ، ولقرابته من رسول الله (ص) ، ولما ورد في حقه من روايات وأحاديث شريفة عديدة ، ومقتله وبهذه الطريقة الشنيعة البشعة أوجد تأنيبا في ضمير الأمة ، وحنقا على الحكم الأموي ، ما كان يمكن أن يوجد إلا بمقتل الحسين لا غيره.

إيجاد الزخم النضالي والروح الجهادية لدى الأمة ، بعد أن كادت هذه الروح أن تموت ، فحركة الحسين ومقتله شجعت الكثير من المسلمين على القيام على الحكم الأموي ، فقامت بعد مقتله عدد من الإنتفاضات والحركات الثورية كحركة التوابين ، وحركة مصعب بن الزبير ، وحركة المختار بن أبي عبيدة ، ومطرف بن المغيرة ، وثورة زيد الشهيد بن علي بن الحسين ، إلى جانب الكثير من الإحتجاجات التي شهدها التاريخ وأدت في النهاية إلى إنهيار الحكم الأموي.

وفي الختام...

واقعة كربلاء وإن كانت حلقة تاريخية انتهت بأشخاصها وأحداثها إلا أنها قادرة على تقديم الأطر والقواعد لحل العديد من مشكلات الإنسان المعاصر ، من خلال الهزة القوية التي تفعلها في النفوس ، فتدفع الناس الى تغيير واقعهم الى الاحسن والى طلب العيش الحر الكريم.

إن وعي المسلم لتجربة كربلاء واستفادته منها حلا لمشكلات أمته هو المطلوب ، ومن الواضح أن كربلاء لا زالت تفعل فعلها في كل نهوض بوجه من يمتهن  كرامة الآخرين ، ولا زالت مشعلا يضئ للمظلوم شمعة أمل بفجر جديد.

ولكي تنهض الأمة وتعي مآزقها ومشاكلها ، "لا بد من ان تسلح نفسها ببعض القدرات التي تساعدها على بلوغ أهدافها ، وأهم هذه القدرات هو الوعي العام المبني على الفكر المستنير لحركة التاريخ" ، ومحاولة قراءة لجوانب هذا التاريخ العظيم قراءة متأنية معاصرة ، من خلال المعاناه التي يعيشها جيل اليوم ، مساهمة في تعديل وتصحيح المسيرة ، والسعي لتأهيل بعض المفاهيم والقيم التي أخذت بالضمور والغياب عن كيان الأمة المسلمة.

إن عدم ادراك المسلم لمساهمة كربلاء- إيجابا- في مسيرته ومحاربته يعني جفافا في التعامل مع الحسين بن علي بن أبي طالب حفيد رسول الله (ص) والذي وردت فيه عدد من الروايات في كتب الحديث المختلفة ، ربما كان أشهرها "حسين مني وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسينا ، حسين سبط من الأسباط" ، وكذلك " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ".

من الأهمية بمكان أن لا تتحول قصة كربلاء إلى مجرد دور السرد التاريخي السطحي الجاف ، مما يحول القضية من أن تكون دليلا ومرشدا نستلهم منه ، الى قصة تاريخية جافة ، مما يفقد كربلاء دورها الأساسي الذي أراده الحسين وأصحابه – بتضحيتهم-  لها أن تؤديه في الأمة في مختلف مراحلها.

لذا لا بد من تجديد الرؤية والفهم في تعاملنا وتعاطينا لواقعة كربلاء ، وأن يكون التفاعل مع قضية الحسين بن علي تفاعلا هادفا وواعيا ومستمرا.

ومن هذا المنطلق ، فكل مدعو إلى العودة إلى التأسي والإقتباس من ثورة كربلاء ، وسيرة الحسين بن علي وأهل بيته وصحبه الذي استشهدوا معه ، وإدامة النظر في الظروف والشروط التي تمت فيها الواقعة ، ولن يتحقق ذلك إلا بالدراسة التحليلية التي يمكن من خلالها إمتلاك الرؤية الإسلامية الشاملة ، والتي تكسب القدرة غلى الحكم على الأشياء المستجدة ، والتعامل مع الظروف المتبدلة ، وزرع تلك القيم في نفوس الناس وفكرهم وواقعهم.

 

تعليق عبر الفيس بوك