شغف نحو الأشياء

عهود الأشخريَّة

إنَّ الرَّغبة الحقيقية تدفعنا نحو الضوء الذي يُعبِّر من خلال أرواحنا نحو عالم أكثر تدفقا بالأشياء السماوية، سماوية الجمال والجدوى والوعي المنهمر علينا كأمطار بها الكثير من السفر، والكثير من التحليق نحو المستقبل، نحو صفات الأشياء وقداستها، هذه القداسة التي تشبه فراشة عبرت العالم بلمعاتها، ثم غابت في صراطها الخاص.

الشغفُ الحقيقيُّ بالأشياء هو ما يجعلها تبدو أكثر بريقا في أعيننا حتى لو كانت بسيطة؛ فمحمود درويش كأصدق مثال وصل مدى حبه للشعر إلى مراحل متقدمة ولا نهائية، وما يدلُّ على ذلك أنه كان يُخصِّص وقتا للكتابة بشكل يومي. كان يحترم كتابة الشعر بسبب هذا الشغف، فلم يكن أبدًا يفوِّت هذا الموعد اليومي، ويستعد له كأنه ذاهب للقاء الحبيبة، إضافة إلى أنه كان يجلس يوميا حتى نهاية الوقت الذي حدَّده حتى لو لم يشعر بأنه سيكتب شيئًا في ذلك اليوم مثلا. إنَّ هذه المرحلة من الشغف نحو الأشياء يجعلها لا تفقد أهميتها، بل تصل هذه الأهمية إلى مراحل أكثر عمقًا.

وإذا كنا حقًّا نودُّ أن نعيش حياة نبحث فيها عن الهدف من وجودنا؛ علينا بدايةً أن نجد هذا الشغف نحو شيء ما؛ فهو حقًّا ما سيجعلنا نستمر إلى مراحل روحية متقدمة، ولا نكون مَوْتى، ذات الموتى في قصيدة نيرودا التي كان يتحدث فيها عن تعريفه للموتى بطريقة متقنة حيث يقول فيما يخص الشغف: "يموت ببطء من هرب من شغفه، من فر بعيدا من زوبعة عواطفه، تلك التي تعيد النور لعينيه، وتضمد الجروح الغائرة التي في قلبه"، وليس من تعريف دقيق أكثر من هذا لمن لا شغف لديهم، أولئك الذي يهربون من كل الأشياء التي تتبعهم ومن ظلال الأشياء.

وكتجربة شخصية في الشغف، وربما لأول مرة في حياتي أشعر بهذه الرغبة الحقيقية نحو تعلم اللغة الفرنسية، رغم أنْ لا سببَ وجيهًا لديَّ لتعلم الفرنسية حسب رأي زملائي في المعهد، حيث إنَّ كلَّ الطلاب كانت لديهم أسباب لتعلم اللغة حين سألنا المعلمة سؤالها الأول: ما الذي يدفعكم لتعلم اللغة الفرنسية؟ كانت إجابات الجميع تتعلق بالعمل أو السفر أو كمتطلب مهم في لدى المهتمين بمجال السياحة، لكنني كنت أشعر بأنَّ رغبتي أكثر صدقا؛ لأنَّني كنت أريد أن أتعلم الفرنسية لأنني أشعر بشيء يدفعنني لتعلمها بغض النظر عن الأسباب المادية للآخرين، كنت أشعر بشيء نفسي في داخلي يدفعني تجاه ذلك بكل سعادة. حين سألتني المعلمة أجبت باختصار: "لأنني أريد ذلك لا أملك أيَّ أسباب أخرى".

وبعد نهاية أول فصل في الدروس، أحسستُ حقًّا أنه ليس بإمكاني إلا أن أستمر، هذا الطريق يقودني إلى النور، إلى الحياة. هذه الحياة التي يجب أن نعيشها كما نريد نحن لا كما تريد هي، وفي عتاب بيسوا لأولئك الذي جعلوا الحياة هي التي تعيشهم لا أن يعيشوها حسب إرادتهم يقول: "نحن لم نعش الحياة، الحياة هي التي عاشتنا بنفس الطريقة التي يرتشف فيها النحل الرحيق".

وأمَّا الأب سماء عيسى، فكتب في اصداره الجديد "كطائر منسي في غابة"/ تلويحتان للحب وللموت وأخرى للمهاجر:

"أنا الذي حياتي

أشبه بوردة قطفها جندي

هرب بها إلى ساحة المعركة

هناك راقبت الوردة

نزيف دمه

ابتسمت له قبل الموت

وحيدة بكت عليه بعد موته".

كان يصف حياته بالوردة التي ولدت بعيدا عن الحرب، لكنها بطريقة ما وصلت إلى ساحة المعركة حين بدأت الحرب أو اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت، هذه الوردة كانت تراقب حياته التي تنفلت منه لحظة بعد لحظه، حياته التي لم تكن بالطبع بلا جدوى فمن يحمل الورد لا يمكن إلا أن يحمل الأمل والشغف نحو أشياء ملونة وبرَّاقة.. مقطع سماء عيسى يبعث فينا المزيد من الشغف نحو السفر في المجهول.

إذن، على كل إنسان أن يعبر هذه الحياة حاملا شغفه الحقيقي نحو شيء ما أو حتى نحو عدة أشياء كي يجد الطريق المناسب لروحه، وحتى لا يتبع خُطى الأولين التي لا تشبهه في شيء؛ ذلك أن لكل إنسان تجربته الخاصة في الوجود.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك