مباراة اعتزال

المعتصم البوسعيدي

لا شيء مثل الإحساس بإنسان يسأل عنك، يهمه أمرك، يتعاطى مع قيمتك الوجودية حتى وإن تواريت عن الأنظار، بعد أيام قليلة وبالتحديد في السادس عشر من نوفمبر ستمر الذكرى السابعة لرحيل "لاعب القرن" في الكرة العُمانية ـ المغفور له بإذن الله ـ غلام خميس الذي سكن الثرى كحقيقة حتمية لنهاية حياة البشر، وأعتلى الثريا كحقيقة رمزية لبقاء سيرته نظير ما قدمه من عمل وجهد وخلق رفيع.

سقطت دموع ها هنا، وتمزقت أحاسيس هناك، ورياح من الشجونِ هبت تُداعب نسمات الصورة المُختزلة في الذاكرة، لكن العاطفة لا تبني واقعًا طالما إنها "سحابة صيف"؛ فعندما تذهب لبيت غلام خميس سترى في مجلسه شهادات التقدير وكؤوس الفوز وصور معلقة على الجدران، لكن المشهد المتواري لهذا الحب سيُفجر في دواخلك ألم وحسرة، مشهد تراه في "غلام" الحفيد الذي يركض نحو جده دون كرة حتى لا يبعث فيه الحزن الذي سببته له، مشهد تراه في صوت الأبناء الذين تبخر رجاءهم في مثل صدقوه من الوهلة الأولى "أعز من الولد ولد الولد" ثم عادوا وكذبوه حين لم يحصلوا على معزة لا قبل ولا بعد رحيل والدهم، مشهد تراه في حلم يتبخر ووصية لا تستطيع تنفيذها، لماذا؟ لأننا لا نملك عطر "المسك"؛ كي ننثره على كل نهاية جميلة!!

في جريدة الرؤية أقمنا مع بداية هذه السنة ندوة "الرياضة العمانية.. التجربة والمستقبل " وحاولنا أن نوقظ "غلام" من رقدته وأن نبعث عفويته الصامتة بركضته الشهيرة عند كل هدف يهز به الشباك، ولكن "لا حياة لمن تنادي" ليس من غلام؛ بل من أنفسنا وكل مسؤول عن من آلت إليه أحلام جُل لاعبي ورياضي السلطنة؛ فغلام ليس الأول ولا الأخير الذي تنتهي سيرته "بردم" البئر رغم توفر الماء فيه!! وهنا نعود لنسأل مرة أخرى: لماذا؟ أعتقد السبب في وضع تواريخ مدة الصلاحية قبل فترتها، أو لنقل لظهور منتج جديد ذو شكل جميل وألوان مخملية.

مباراة الاعتزال تمثل حالة من الوعي وثقافة تدعو للتحفيز والتقدير ومد جسور البناء للاعب المعتزل، إقامة مباراة الاعتزال ـ بالتأكيد ـ تنم كذلك عن مسؤولية مجتمعية من المؤسسات والأندية والأفراد، وهي ليست اختراع "ذري" لا نستطيع اكتشافه، ولا حكرًا غربيًا يفصلنا عنه "سنوات ضوئية" للوصول إليه، وكم من مباريات أقيمت على إمتداد الوطن العربي، بل وأقيمت هنا ولو على النطاق البسيط، لكن الأمر يتعلق دائمًا بمباراة الاعتزال ذات القيمة شكلاً ومضمونا.

قائمة اللاعبين الذين لم تُقام لهم مباراة اعتزال تضعنا أمام خلل واضح في أحد مسارات صناعة الرياضة العُمانية بشكل عام، وكرة القدم بشكل خاص، وهي فجوة وتحدي للأندية في المقام الأول ومن ثم الجهات المشرفة على الرياضة والقطاع الخاص في المقام الثاني، على ان الأمر ـ أيضًا ـ يشمل اللاعب وأهمية تسويق نفسه لمثل هكذا تظاهرة بالرغم ـ وحسب وجهة نظري ـ ان شهادة استحقاقه لمباراة الاعتزال تتمثل في عطاءه وعمله طوال سنوات ممارسته للعبة.

لقد اطلعت على فكرة جميلة حول إمكانية تحقيق مباريات الاعتزال وذلك بإقامة صندوق للاعبين المعتزلين، وربما هذه الفكرة تتماشى أيضًا مع فكرة إنشاء رابطة للاعبين قوامها اللاعبين أنفسهم المعتزلين أو الممارسين على حد سواء؛ من أجل معرفة واجباتهم وحقوقهم والحفاظ عليها وفق الأنظمة والتشريعات المسيرة لعمل الأندية والاتحادات، الأمر الذي يتيح أيضًا تنظيم العلاقة بين اللاعب والنادي، والنادي والاتحادات، وعلى الاعلام الرياضي ان يقود حملة تنويرية ـ إن صح التعبير ـ بتسليط الضوء على قيم التكريم والتحفيز وملء الفراغ الذي يشعر به اللاعب المعتزل، إضافة إلى وضع خارطة طريق تصل بنا إلى أرضية صلبة لبناء المؤسسة الرياضية على أسس مستدامة لا تحكمها المصالح والمحسوبيات وكل الأنانيات التي لا تقدمنا خطوة للأمام.

مباراة الاعتزال تمثل بداية جديدة للاعب، وأفق واسع للمضي بالإنسان قبل اللاعب لحياة أفضل سيرورتها العمل وديمومتها البيئة الصحية، كذلك تعني مدى اعتزاز البلد بأبنائه والناس ببعضهم والمؤسسات بالمنتمين إليها، كما تعطي النشء الدافع نحو تقديم الجهد والتضحيات للرقي بالوطن حتى لو كان ذلك بكرة منفوخة.

تعليق عبر الفيس بوك