بساطة الشعر

عبير السعيديَّة

"كل الطرقِ لدى الأوروبيين توصلُ إلى روما، وكل الطرقِ لدى العرب توصلُ إلى الشعر".. هذا ما قاله نزار قباني عن الشعر لدى العرب. حيث كان الشعرُ نافذة الضوء الأوسع والصوت الأكثر تأثيراً لأذن المجتمع. ولهذا السبب نرى أنه محل اهتمام الناس عموماً والعديد العديد من الفعاليات بشكلٍ خاص، فكما نرى تكاد تخلو أيّ فعاليةٍ تقام من فقرةٍ على الأقل مخصصةً للشعر وأحياناً تكون الفعاليةً كاملةً شعرية. ناهيك عن المسابقات والتنافسات حول هذا المجال. كل هذا جعل العرب الأكثر تطوراً وبخطواتٍ عديدة في هذا المجال. ردة فعل العرب كانت انطلاقةً واسعة في الشعر نعم، لكنها من جهة أخرى جعلت لمفهوم الشعر أشكالا مختلفةً أسوؤها أنه أصبح عند البعض "موضة" فتوجه إليه من أدرك معانيه ومن لم يدركه لينال مرتبةً ولو هينةً فيه.

أصبحت صورة الشعر كل ما هو موزونٌ ومقفى أياً كانت الصياغة وحس النص. نعم هذا أحد مفاهيمه البسيطة والأكثر تأصلاً عند الأغلبية.

يقول د.إحسان عباس إنَّ الشعر في ماهيته الحقيقية تعبير إنساني فرديـ يتمدّد ظلّه الوارف في الاتجاهات الأربعة ليشمل الإنسانية بعموميتها. لكنَّ نزيه أبو عفش جاء في مقالةٍ له عن الشعر بفكرةٍ أخرى؛ حيث قال إنَّ "الشاعر الحقيقي هو من له القدرة على سماع صوت العالم كمن ينصتُ إلى صوت نفسه، أن يتألم لا أن يرى الألم، أن يكون شريكاً لا مجرد شاهد". لذلك يكمن الشعر الحقيقي في كل ما ولد من رحم الألمِ والمعاناة. كما فعل محمود درويش وتميم البرغوثي اللذان عاشا الألم الفلسطيني ونقلاه لنا بكل آلامه. إضافة إلى الألم الذي كتبه نزار قباني في زوجته بلقيس حين قتلت. كلنا استلبستنا مرارة نزار حين كتب ألم فراق بلقيس خصوصاً الصيحة التي امتزجت في كلماته حين قال:

"بلقيس..

مذبوحون حتى العظم..

والأولاد لا يدرون ما يجري..

ولا أدري أنا.. ماذا أقول؟

هل تقرعين الباب بعد دقائق؟

هل تخلعين المعطف الشتوي؟

هل تأتين باسمةً..

وناضرةً..

ومشرقةً كأزهار الحقول؟

بلقيس..

إن زروعك الخضراء..

ما زالت على الحيطان باكيةً..

ووجهك لم يزل متنقلاً..

بين المرايا والستائر

حتى سجارتك التي أشعلتها

لم تنطفئ..

ودخانها

ما زال يرفض أن يسافر".

هؤلاء الشعراء لم يتركوا أثراً عميقاً في قصائدهم وحسب، بل تركوا قلوبنا وقلوب أجيالٍ آخرى بعدهم تتألم من فحوى كلماتهم التي لم تكتب بحروفِ الأبجديةِ أبداً، كانت تكتب بالمعاناة نفسها التي تذوقوها هناك.

هذا هو الشعر، مرآةَ الألم لكنه من جهةٍ أخرى الحقيقة الصعبة، والتي يصعب على كاتبها الهروب منها. فمن يحب ومن يتألم لا يمكنه التمويه عن حقيقة أعماقه أمام الشعر لأن الشعر وبكل بساطة يجعل صاحبه عارياً أمام منصته كما قال أبو عفش. ولعل كل من يتابع منا جديد الشعر قد لاحظ ذلك، ولكم يحاول الكثير منهم تمويه الصورة أو تعقيدها ليصبح المقصد غامضاً متناسين أنهم لا يشوشون إلا مصداقيتهم أمام قداسة الشعر وصفائه. كل التراكيب والتعقيدات التي يحاولون الجري إليها للسبب الذي أسلفت أو بحثاً عمَّا هو مميز؛ ما هي إلا تشوهات الشعر وتخبطاته في يد من يخطئ الحفاظ عليه نقياً وبسيطاً ومرتبكاً كما ولد في الأصل. وأظن أننا صرنا نتقن فن الإصغاء الحقيقي لما وراء الكلمة، نتقن معرفة تلك الربكة المزيفة التي كتبت لبناء قصيدةٍ وحسب، هذا البناء الهش والمبهم، الخالي من حرارة القلق وارتجافة المعنى الحقيقي للتأوهات. هذا الذي يخالف تمامًا القصيدة التي كتبها حزينٌ ما في هذا العالم لم يجد سلاحاً ليدافع به عن نفسه أمام الألم إلا كلماته؛ فوجد في الشعر خلاصاً لكل ما به ولجأ إليه أخيراً. هؤلاء الشعراء الذين نبحث دائماً عنهم، هؤلاء من يحيون أصالة الشعر ومن يعرفون كيف يرسمون آلامنا ومخاوفنا وربكتنا، هؤلاء وحسب من نشعر أن قصائدهم تعنينا من الداخل.

تعليق عبر الفيس بوك