"ســرّ" الصيـن العـظيم: الأصفر بدل الأخضر!

د.سعـد بساطـة   

فاجأت الصين أسواق المال العالمية بخفض قياسي للسعر المرجعي الذي يُحدّده يومياً مصرفها المركزي لعملتها اليوان أمام الدولار؛ مما ألقى بظلاله على الأسواق من عملات وسلع. اتفقت آراء كثيرة بأن حرباً تلوح بالأفق بعد الخسائر الكبيرة التي ضربت سوق الأسهم، لتعـديل الصادرات التي تراجعت بشكل حاد خلال الشهر الماضي، فالصين يهمّها اقتصادها بغض النظر عن تفسير حدوث ذلك كخطوة نحو تحرير أكثر لتكون العملة الصينية ضمن سلة احتياطي صندوق النقد..

قد تكون البرازيل فقدت "هيبتها" في كرة القدم العالمية، بعد خروجها "المبكر"، من دورة كأس العالم الأخيرة بجنوب أفريقيا، لكنها تفرض نفسها وبقوة، كلاعب مهم بالساحة الاقتصادية العالمية مع النمو الكبير الذي يعرفه الاقتصاد البرازيلي الصاعـد بشكل مذهل. وفي هذا السياق، انطلقت على لسان وزير المالية البرازيلي ولأول مرة عبارة "العالم يُعاني حرب عملات" وسرعان ما راجت هذه العبارة.

تثير "حرب العملات" التي يرى خبراء أنّها تهدد الانتعاش العالمي، تبادل اتهامات بين الدول بشأن التلاعب بأسعار عملاتها متجاهلة التعاون الدولي؛ وأبرز معالم هذه الحرب "الباردة" التراشق الإعلامي بين الولايات المتحدة والصين.

ولكن ما هي حرب العملات تلك؟  

تستخدم الدول سلاح سعـر الصرف، إذ يسمح خفض سعـر عــملة بإعطاء دفع للصادرات وبالتالي منح رفع للاقتصاد. والمشكلة الرئيسية هي أنّ هذه السياسة تطبـّق على حساب الشركاء التجاريين وتزيد من خلل التوازن. ونكون بذلك بعيدين عن "النمو المتوازن" الذي تدعو مجموعة العشرين إلى تحقيقه .
تواجه العملة الصينية اختبار القوة لأن شركاءها التجاريين (الولايات المتحدة وأوروبا) يتهمان بكين بتعمـّد تخفيض سعر صرف اليوان. وبحسب واشنطن فإنّ السلطات الصينية تعرقل التحسن الطبيعي لسعر صرف اليوان من خلال شراء عملات أجنبية. وكان للصين حتى 30 يونيو أكبر احتياطي عملات في العالم مع 2447 مليار دولار (30% من الاحتياطي العالمي). جاء إعلان الولايات المتحدة عـزمها على اتخاذ إجراءات تحفيزية جديدة لخفض قيمة الدولار، مخاوف واسعة النطاق بشأن احتمال تصاعد حرب " تخفيض قيمة العملات " على المستوى الدولي، وتضّرر مصالح شركاء واشنطن التجاريين وخاصة الاتحاد الأوروبى ودول الخليج العربى وآسيا.
أوضح محللون اقتصاديون دوليون أنّ الولايات المتحدة تسعى من وراء إغـراق الأسواق بالدولارات لدفع القوى الاقتصادية الكبرى في العالم إلى تعديل سياساتها المالية لتتلاءم مع السياسات المالية لواشنطن، وليس العكس.
وفى السياق نفسه، ترى الحكومة الصينية أنّ الاستجابة للمطالب الأمريكية بشأن رفع قيمة اليوان سيؤثـّر سلبًا على صادراتها، ويفاقم معدلات البطالة ويدفع مؤسساتها المعنّية بالتصدير للإفلاس، وذكر خبراء أنّ الصين نجحت إلى حدٍ ما في دعم صادراتها عن طريق التحكم في سعر الصرف خلال الأزمة المالية العالمية وما بعدها، ودعم ذلك نمو قوي للاقتصاد...وبحسب الخبراء حتى إذا قصدت الصين ضرب عصفورين بحجر: لدعم صادراتها، ولفت نظر صندوق النقد تجاه عملتها وإمكانية دخولها سلة عملات الاحتياطي، فإنّ الصندوق سيراجع تلك السلة خلال الخريف القادم! هذا يعني مزيدًا من التذبذب والضغط على عملات آسيوية مختلفة.

التسؤال: هل يحاول البنك المركزي الصيني اختبار رد فعل السوق؟ قـد يكون هذا وارد، لكنه في النهاية يصب في صالح اضطراره لتفعـيل أداة غير تقليدية وما تحمله من رسائل بدعم سياسة نقدية توسعية...

لربما من المفيد تسليط الضوء عـلى تاريخ هيمنة الدولار عـلى عملات العالم؛ بعـد اتفاقية بريتون وودز: Bretton Wood  مؤتمر النقد الدولي الذي انعقد بيوليو 1944 بغابات بريتون/ نيوهامبشر - الولايات المتحدة الأمريكية. وقد حضر المؤتمر ممثلون لأربع وأربعين دولة. حيث وضعت الخطط لأجل استقرار النظام العالمي المالي. وافقت البلدان المشاركة على المحافظة على قيمة عملتها في نطاق هامش ضيق مقابل الدولار وسعـر مماثل من الذهب. وثبتت الاتفاقية العملات الأجنبية مقابل الدولار، وتم تحديد الدولار بسعر 35 دولاراً مقابل أونسة من الذهب.

طوّر المخططون مفهوم  الأمن الاقتصادي كون الأسباب الأساسية للحرب العالميتين نبعتا من تمييز اقتصادي وحرب تجارية. وكان قرار تخصيص حقوق التصويت بين الحكومات، ليس على أساس لكل دولة صوت واحد، لكنه أكثر على حسب نسبة الحصص. حيث إن الولايات المتحدة أكثر الأعضاء مساهمة، فقد كانت ريادتها أساسية. بموجب نظام التصويت المرجح، مارست الولايات المتحدة تأثيراً مهيمناً على صندوق النقد الدولي؛ فهي.  تمتلك ثلث إجمالي حصص الصندوق الدولي، مما يمكنها من ممارسة حق الڤيتو على كافة التغييرات بميثاق الصندوق. بالإضافة لذلك، فالمقر الرئيسي لصندوق النقد الدولي في العاصمة الأمريكية، ومعظم العاملين به من الاقتصاديين الأمريكيين. ويتم تبادل الموظفين بانتظام مع الخزانة الأمريكية!

وبعد أن تغير العالم كثيرًا عن زمن بريتون وودز يتساءل الكثيرون، وبحق، عن مدى ملاءمة آلياتها بالوقت الراهن. فمن المعروف أن هناك تغيرات هائلة وجذرية حدثت في منظومة الاقتصاد العالمي، بحيث جعلت تلك الآليات تضيق عن تحملها. خذ مثلاً الاضطراب الشديد الذي حدث في نظام النقد الدولي، وهو الاضطراب الذي بدأ منذ وقف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب في عام 1971، والاتجاه نحو تعويم أسعار الصرف، والتخمة الشديدة غير المنضبطة التي حدثت في السيولة العالمية وتحويل أسواق النقد الدولية إلى ما يشبه نوادي القمار والمضاربة على العملات. خذ الحروب النقدية والتجارية التي اشتعلت بين الدول الرأسمالية الصناعية. خذ التكتلات الاقتصادية الأربعة الكبرى التي ظهرت في عالمنا المعاصر: كتلة أوربا الموحدة، وكتلة اليابان والمجموعة الآسيوية، والصين وحدها، وكتلة الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، والتي تتحول الآن إلى ما يشبه القلاع التجارية المنغلقة. ولنأخذ التقلبات الشديدة التي تحدث في أسعار المواد الأولية التي تصدّرها البلاد النامية، وهي المصدر الرئيسي للعملات الأجنبية فيها.

لم تكد أمم العالمَين الصناعي والنامي تخرج من أسوأ تباطؤ اقتصادي عرفته منذ الحرب العالمية الثانية، حتى دخلت أتون حرب من نوع آخر، كانت أسبابها تتراكم منذ فترة طويلة، وتحديداً منذ اتضح أنّ الدور الاقتصادي للصين في العولمة ينمو بمعدّلات قياسية، في مقابل تقلّص في دور القطب الغربي. إنّها حرب العملات، وهي الوجه الآخر للعملة في الحرب التجارية
القضية هنا إذاً، تتعلق باختلال التوازن على مستوى الاقتصاد العالمي، وتحديداً بين الولايات المتحدة والصين. فالبلد الأول يُعدّ المستهلك "الرقم واحد" عالمياً، والاستهلاك فيه يمثل ثلثي النشاط الاقتصادي الإجمالي الذي تفوق قيمته 15 ألف مليار دولار. في المقابل، تكرّس الصين رياداتها على صعيد اقتصادات الحجم، أي الإنتاج الهائل بأكلاف منخفضة.
كثيرا ما يمزح مراقبو العلاقات الأمريكية الصينية بقولهم إن واشنطن وبكين مثل زوجين متورطين في زيجة فاشلة؛ لذا نشهد حلقة من حلقات النزاع الزوجي على الصعيد الدولي. ويرجع السبب الأساسي للنزاع بين العم سام ودائنه الأكبر في الوقت الراهن إلى قيمة العملة الصينية.
المعادلة هنا بسيطة حيال تقييم العملة: فكلما كانت قيمة العملة منخفضة في السوق الدولية كانت أسعار السلع التي تنتجها الدولة أقل، وكانت المنتجات التي تصدرها ذات قدرة تنافسية أكبر مقارنة بالعملات مرتفعة القيمة فتزيد صادرات هذا البلد .الأميركيون على حق في أن قيمة العملة الصينية منخفضة أكثر من اللازم . لكنهم مخطئون في أن إعادة تقييم العملة الصينية سوف يحل مشكلات واشنطن الاقتصادية، خصوصاً المشكلة المستعصية بشأن ارتفاع معدلات البطالة.  واتهمت الصين الولايات المتحدة بأنها هزت اقتصاديات العالم بسياستها النقدية التوسعية ودولارها الرخيص، في حين اتهمت واشنطن بكين بأنّها تتعمد خفض سعر صرف عملتها لتحقيق مزايا تجارية. ولو كانت هناك محكمة عالمية عادلة، لحكمت بإدانة الطرفين، فكل منهما مخطئ واتهامه للطرف الآخر محق. المنتجات الصينية رخيصة ليس فقط لأنّ عملتها منخفضة القيمة، بل أيضاً لأنّ أجور العمال في الصين تقل عن ربع أجور العمال في الولايات المتحدة وأوروبا، وإنتاجيتهم ليست متدنية.
في العالم اليوم حرب عملات علنية بين واشنطن التي تطبع دولارات بالمليارات، وبكين، (وإلى حد ما أوروبا التي تدرك سعي الأمريكان لحل مشاكلهم على حساب اقتصاديات العالم). الدولار ليس عملة الولايات المتحدة وحدها، بل عملة العالم، حيث تحتفظ دول العالم باحتياطات مالية يشكل الدولار 62 في المئة منها. ومع ذلك فإنّ العملة العالمية وأداة التعامل والادخار على صعيد العالم تؤخذ قراراتها بشكل انفرادي من دولة واحدة هي الحكومة الأمريكية ومصرفها المركزي. الدولار الذي يملكه العالم يشكل التزاماً على أمريكا، وعندما يذوب الدولار تذوب معه ثروات العالم وادخاراته، وتنخفض التزامات واشنطن تجاه العالم، فالعملية تمثل نقل الثروة من دول العالم للولايات المتحدة!.

لقد تخطت الصين الولايات المتحدة لتصبح أكبر دولة في تجارة السلع على مستوى العالم خلال العام الماضي بقيمة بلغت 4.16 تريليونات دولار؛ وبذلك تكون الصين قد تجاوزت روسيا ذات الاحتياطي الذهبي (1238 طناً) ؛ وهذه المرة الأولى منذ ست سنوات التي يكشف فيها بنك الشعب الصيني عـن حجم احتياطات البلاد من الذهب، بعد أنّ أعلن في2009  عن ارتفاع احتياطاته من الذهب إلى 1054.1 طن من 600 طن. حيث تعتبر الصين حجم احتياطاتها من الذهب سرًا من أسرار الدولة ولا تخطر صندوق النقد الدولي بحجمها على أساس شهري مثلما تفعل معظم الدول الأخرى. نلاحظ أنّ المخاوف من استمرار احتضار قيمة الدولار الأمريكي، قد دفعت السلطات الصينية للتركيز على شراء ديون دول أوروبية. لكن انتشار عدوى أزمة الديون في منطقة اليورو من اليونان إلى البرتغال وغيرها كإيطاليا، وخطر تهديد قوة اليورو واستقراره، حمل الصين الآن على التفكير في الذهب، كملاذ آمن لاحتياطياتها من العملات الصعبة البالغ ثلاثة تريليونات دولار. وبالفعل، أعـلنت السلطات الصينية عــن مضاعــفة احتياطياتها من الذهب إلى 1054 طنا (ما يعادل 54 مليار دولار) مع التخطيط لرفعها إلى 8،000 طنا. وفي العام الماضي ساعدت بكين على درء أزمة عارمة لعملة اليورو من خلال شراء السندات اليونانية، في مقابل استئجار ميناء بيريوس في أثينا لفترة 35 عاما. وفي وقت لاحق اشترت الصين ما يعادل 1.4 مليار دولار من السندات الأسبانية، في صفقة هامة.

بالنهاية هل هنالك أبلغ من القول:

رأيت الناس قد مالوا    إلى مـن عـنده مال   ومن لاعـنده مال    فعـنه الناس قد مالوا

رأيت الناس قد ذهبوا   إلى من عـنده ذهب    ومن لاعـنده ذهب فعـنه الناس قد ذهـبوا

ختامـاً؛ مافعـلته الصين: لايعـدو هــزّ العـصا أمام الدولار المسيطر بدون وجه حق، مادامت باقي دول العـالم لا تستطيع / أو لا تجرؤ عـلى إعـلان موقف جريء تجاه وضع ٍ مرضي تفاقم، ولايوجد من يجرؤ أن يناقضه أو يستطيع أن يناقشه!.

SADBSATA@GMAIL.COM

تعليق عبر الفيس بوك