مؤسسة مؤمنون بلا حدود وأسئلة الدين والشرعية والعنف

صالح البلوشي

شاركت الأسبوع الماضي في المؤتمر الثالث لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود" ، التي أقيمت في العاصمة الأردنية عَمّان تحت عنوان:"الدين والشرعية والعنف" في المنظور الفكري والفلسفي والسياسي الاجتماعي والديني الفقهي، وجاءت مشاركتي بدعوة كريمة تلقيتها من المؤسسة مع ثلاث من الكُتّاب والباحثين العمانيين وهم: خميس العدوي- رئيس الجمعية العمانية للكتاب والأدباء-، وبدر بن سالم العبري، وعبدالله بن علي العليان.

اتسمت الأوراق التي قدمت والندوة الحوارية المفتوحة التي أقيمت بعد انتهاء المؤتمر بالعمق المعرفي والمنهجي في محاولة فهم العلاقة الجدلية بين الدين والعنف والشرعية، حيث شارك فيها مفكرون كبار في العالم العربي أمثال: الدكتور عبدالمجيد الشرفي والدكتور نادر الحمامي من تونس، والمستشار عبدالجواد ياسين من مصر، والدكتور يحيي قنديل من الأردن، وغيرهم، مما شكل فرصة ذهبية للضيوف والمشاركين من أجل الاستفادة من هذه الأطروحات والنقاش مع المفكرين فيها. وكان أبرز المحاور التي طُرحت في المؤتمر: دور الدين في أحداث العنف التي تحدث اليوم في العالم العربي، في ظل تنامي التطرف الديني الذي بدأ يكتسح الساحة العربية منذ أحداث ما يسمى بـ "الربيع العربي" عام 2011، وبروز ظاهرة التنظيمات المتطرفة الإرهابية، أمثال: (داعش) و(جبهة النصرة) وغيرها، فهناك من حَمّل التراث الإسلامي والفتاوى الدينية مسؤولية كبيرة وربما الأولى لنمو هذه الظاهرة في العالم العربي، وكان أبرز من مثّل هذا الاتجاه المستشار عبدالجواد ياسين صاحب كتاب "الدين والتدين.. التشريع والنص والاجتماع"، بينما رفض كلا من رضوان السيّد وعبد المجيد الشرفي الربط بين الدين والعنف، وإن لم ينفيا توظيف التنظيمات المتطرفة النصوص الدينية من أجل عمليّة إقصاء الآخرين وقتلهم، فالشرفي - مثلا- قال: إنّ التنظيمات الماوية في سيريلانكا سبقت الجماعات الإسلامية في عملية استخدام الأحزمة الناسفة ضد مخالفيها، أمّا رضوان السيد فهو - كما في سائر أطروحاته- يُحمّل الأحزاب الإسلامية مسؤولية العنف وخاصة الإخوان المسلمين، ولكنه يعتقد أن أسباب ذلك لا يتمثل في الدين وإنما يرى أن أحد أهم أسباب التطرف الديني ابتعاد المسلمين عن العقيدة الأشعرية التي يرجع إليها أهل السنة في أصول الدين وعلم الكلام، بينما ذهب المفكر التونسي نادر الحمامي في ورقته التي كانت بعنوان: (تمثل "التاريخ الديني" والتشريع للعنف) إلى ضرورة دراسة التمثلات "التاريخية" في قضية معالجة العنف باسم الدين، باعتبار أن الجماعات الدينية المتطرفة قد تجد في تلك التمثلات ما يدعم توجهاتها وترى أنها تقتدي بذلك بالسلف الصالح وفق متخيلها الجمعي.

ومن البحوث المهمة التي قدمت في المؤتمر الورقة التي قدمها الدكتور علي محافظة من الأردن تحت عنوان: (الجذور الفكرية لحركات الجهاد الإسلامي السلفية الراهنة)، وسبب أهمية هذه الورقة أنه لا يمكن فهم طبيعة الحركات المتطرفة دون معرفة أيديولوجيتها والمرجعية الفكرية التي ترجع إليها في الفقه والمعاملات، وأشار الباحث إلى أن معظم الحركات السلفية المتطرفة ترجع إلى دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب التي ظهرت في الجزيرة العربية وقد أسهم انهيار الدولة العثمانية في انتعاشها في العالم العربي؛ بسبب دعوتها إلى إحياء الخلافة من جديد، حتى ظهرت جماعة الإخوان المسلمين في مصر سنة 1928 ، ثم ظهرت فكرة الحاكمية في الإسلام على يد الداعية الباكستاني أبو الأعلى المودودي التي تبناها الأستاذ سيد قطب بعد ذلك لتنتقل لاحقا إلى الجماعات السلفية المتطرفة، حتى أخذت شكلا عنيفا جدا اليوم على يد تنظيم داعش الإرهابي.

وبعيدا عن أجواء المؤتمر والنقاش التي اتسمت أغلبها بالسخونة، أستطيع القول بأن مؤسسة (مؤمنون بلا حدود) بعمرها القصير الذي لا يتجاوز الثلاث سنوات أثبتت بجدارة أنها أحد أهم المؤسسات البحثية في العالم العربي، فهي بالإضافة إلى مؤتمرها السنوي الذي يشارك فيه أهم المفكرين في العالم العربي، تنظم ندوات فكرية بصفة منتظمة تستضيف فيها أهم المفكرين في العالم العربي من المشرق والمغرب، واستطاعت أن تخترق دائرة الممنوع التفكير فيه في العالم العربي لتطرح رؤى وأفكارا جريئة كانت تُعدّ حتى قبل سنوات قليلة فقط خطوطا حمراء لا تُمس، وجميع هذه الإنجازات المعرفية لم تكن لتتحقق إلا إيمانا من المؤسسة برسالتها الفكرية التي جعلت شعارها "المساهمة في خلق فضاء معرفي حر ومبدع لنقاش قضايا التجديد والإصلاح الديني في المجتمعات العربية والإسلامية والعمل على تحقيق رؤية إنسانية للدين منفتحة على آفاق العلم والمعرفة ومكتسبات الإنسان الحضارية، وخلق تيار فكري يؤمن بأهلية الإنسان وقدرته على إدارة حياته ومجتمعاته متخطيا الوصايات الأيديولوجية أو العقائدية".

ومن يطالع قائمة المجلات والكتب التي تصدرها مؤسسة مؤمنون بلا حدود يلاحظ أنها تضم عناوين في جميع الحقول الفكرية، في الفلسفة، ونقد الخطاب الديني، وعلم الاجتماع، والأديان المقارنة، واللسانيات وغيرها، ولا تقتصر على تيّار فكري دون آخر، وإنّما تضم كثيرًا من المنتمين للتيّارات الإسلاميّة أيضا، بالإضافة إلى التيّارات الدينية الحداثية والتقليدية. وتصدر المؤسسة مجلة (يتفكرون) الفصليّة، ومجلة (ألباب) وهي مجلة فصليّة محكمة تعنى بالسياسة والدين والأخلاق وتشرف عليها نخبة من المفكرين العرب. وأمّا الكتب فضمن الكتب التي أصدرتها المؤسسة كتاب: "لا إكراه في الدين.. إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم" للمفكر الإسلامي العراقي طه جابر العلواني، وكتاب: "تجديد أصول الفقه" للباحث السعودي زكي الميلاد، وكتاب: "الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث" للأستاذ محمد حمزة، وغيرها، مما يثبت أنّ المؤسسة لا تنطلق في عملها من خلال رؤية أيديولوجية معينة أو تسعى للقضاء على تيار معين؛ وإنما هي مؤسسة بحوث ودراسات تسعى إلى خلق فضاء معرفي حر من أجل قراءة حضارية وتنويرية للإسلام وتحريره من أسر القوى الظلاميّة المتطرفة والأحزاب الإسلاموية التي تحاول احتكار هذا الدين العظيم وإقصاء كل قراءة تخالف تفسيراتها الظلامية.

Omansur5@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك