ما قبل الإنسانية

أسماء القطيبي

في صحيفة الصباح وقبل أن تشرب قهوتك تطالعك صورة الطفل السوري الذي لفظه البحر على الشاطئ، تحاول أن تتجاهل الصورة، تجدها في هاتفك وعلى صفحات الفيسبوك وتويتر، تمعن في الهرب، تنظر إلى البحر خلف الطفل في الصورة وتفكر.. هل كانت والدته تجاهد الغرق بينما هو في حضنها قبل أن يتسلمه البحر ليقذفه على الشاطئ؟ ماذا عن والده وهو يشاهد ابنه منطرحا على البحر كجيفة؟ ماذا لو كان هذا الطفل أحد أقاربك؟ تود لو أنّك تخلع عن الطفل حذاءه لترميه في وجه العالم.

طوال الحرب في سوريا كان الموت يتمشى في القرى ليجمع ما استطاع من الناس الذين لا ناقة لهم في صراع القوة، وقبلها كانت أسقف غزة تنهار لتنهي مصير عائلات بأكملها، وكنّا نشاهد في بث مباشر النّاس في الشوارع يركضون خوفاً لا يلوون على شيء، مأساتان عربيتان ضمن مآسٍ كثيرة يبثها الإعلام بلا توقف، لتؤكد لنا أن الحديث عن الإنسانية محض هراء نغذي به ضمائرنا. وألا شيء يتغير سوى أنّ الأمر يزداد بشاعة، مثلاً حين مات محمد الدرة مات مع والده، بينما مات هذا الطفل وحيدًا، حين مات الصغار الآخرون كانوا تحت سقوف بيوتهم بينما غرق هذا الطفل في بحر غريب في بلد غريب. ولا انتفاضة ستقوم من أجله.

في مأساة الهجرة السورية لم يكن الواحد منهم يساوي شيئًا دون مجموعة أوراق تثبت أنه موجود وأنه مخول بالسفر، لذا يضطر البعض للتخفي والتسلل ليلاً رغم أنه يفترض أن يكون ظهورهم هو الدليل. فتراهم يتنقلون من قارب لآخر بحثاً عن حياة، هل كان هؤلاء يتخيلون يومًا أن تهدر إنسانيتهم بهذه الصورة البشعة؟ لا أظن أنهم فكروا في ذلك عندما كانوا يستيقظون سنوات طوال آمنين مطمئنين في منازلهم. حين كانوا يوصلون أبناءهم للمدارس ثم يستأنفون طريقهم للعمل، كانت هموم الحياة البسيطة جل ما يشغلهم. قبل أن تُعلن حرب "لا يدري القاتل فيم قَتل، ولا المقتول فيم قُتل". كانت الهجرة الخيار الوحيد والأمل الأخير رغم أنّها بلا ضمانات، لكن الوطن ضاق بأهله فكان لا بد من الخروج.

يؤلمك أن تكون ذاكرتك قصيرة تجاه المآسي، تشعر بالذنب لأنّ همومك الصغيرة تشغل تفكيرك أكثر من أناس لصدفة ما لم تكن منهم، تهم بأن تسب وتشتم مثل كل مرة لكن يختنق صوتك حين تتذكر أن إنسانيتك ليست بأثمن من إنسانيتهم عند أي أحد، الظروف وحدها جعلتك آمناً حتى الآن، وأن -حسن حظك- هذا لا يعني أنك بمنأى عن الخطر. ومن يضمن أن صغارك ستكون حظوظهم في الحياة الكريمة مثلك، وأن الأيام التي تتداول رفيقة بهم كما كانت معك؟ تعزي قصر ذاكرتك إلى قصر يدك، تكتفي بالدعاء على الظالم.

اتفهم موقف أولئك الذين تعبوا من الحديث والتحسر كل مرة ففضلوا الصمت، لكني استغرب من أولئك الذين يستكثرون على النّاس التعبير عن حزنهم ورفضهم لما يحدث، بأيّ حق يستهزأ هؤلاء على مشاعر الناس؟ بأي حق يصادرون حقهم في التعبير عن التعاطف؟ لعلنا نفعل ذلك لنؤكد لأنفسنا أننا ما زلنا أحياء، ما زلنا نحتفظ بشيء من الفطرة الإنسانية. فقد كان بإمكاننا ببساطة ألا نستمع للأخبار، أن نقاطع كل الصحف ووسائل التواصل، لكن هذا الهرب لا يكفي، فالحقيقة أنّ العالم يضج بالحروب والموت، وأن من نتقاسم معهم روابط كثيرة كاللغة والدين، يتشردون في أقصى العالم طلبًا لأرض يستيقظون في صباحاتها دون صوت القذائف والمدافع، ومورد رزق يتعففون فيه عن سؤال الغير لقمتهم، لا أكثر.

قلبي مع أولئك الذين أصبح المجهول من أمامهم، والموت من خلفهم، على الأطفال الذين لن يذكروا من بلادهم سوى الدمار والبيوت المهدمة، قلبي مع الشيوخ والعجائز الذين لم ترأف الحياة بسنهم، على الرجال المتعبين الذين شاخوا قبل أوانهم، وللنساء المنهكات. وكل العزاء لأولئك الذين لم يعرفوا من الإنسانية إلا بقدر ما يطعمون به خطاباتهم. هؤلاء بالضبط الذين أود لو أخلع عن الطفل حذائه لأرميه في وجوههم، لعلهم يفهمون معنى الإنسانية الذي أقصده.

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك