صحافة حرة أم صحفيون أحرار؟

فؤاد أبو حجلة

في الحديث عن حرية الصحافة يتركز النقاش عادة حول علاقة السلطة الرابعة بالسلطات الثلاث الأخرى، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وغالبًا ما يتناول الحديث أيضًا القوانين الناظمة للعمل الصحفي ومدى ملاءمتها لحق الصحفيين في الحصول على المعلومة ونشرها، ويأخذ النقاش منحى خاطئا أو منقوصا حين يركز على حقوق الصحفيين ويغفل عن واجباتهم والتزاماتهم، وكأنّ العاملين في هذه المهنة أنبياء أو ملائكة أو أشخاص منزّهون عن الخطأ.

وفي واقع الأمر لا يمكن أن تترسخ حرية الصحافة إلا بوجود صحفيين أحرار ملتزمين بأخلاق المهنة وقيمها، كما تظل هذه الحرية ناقصة في غياب القوانين العصرية الخاصة بالحريات الصحفية والعلاقة السوية بين الصحافة وأجهزة الدولة ومؤسساتها والمجتمع بكل مكوناته.

أكتب عن رؤيتي لحرية الصحافة بعد أن صدمني خبر اعتقال اثنين من أهم الصحفيين الاستقصائيين الفرنسيين بتهمة محاولة الابتزاز للحصول على المال.

وتتلخص القصة الصادمة في أن الصحفيين اريك لوران وكاترين غراسييه حاولا ابتزاز العاهل المغربي بالتراجع عن نشر كتاب عنه مقابل الحصول على ثلاثة ملايين يورو، وقد ضبطتهما الشرطة الفرنسية بالجرم المشهود خلال لقائهما في باريس مع محام مغربي يمثل القصر، وبعد شكوى مغربية من هذا الابتزاز.

بالطبع، ليس غريبًا أن يسعى صحفيان فرنسيان كبيران إلى الحصول على المال بهذه الطريقة السيئة والمسيئة، لأنّهما في النهاية يعملان في مهنة تحقق النجوميّة لقلة من أبنائها لكنها لا تؤمن مستقبلهم وتبقيهم مكشوفين للفقر والعوز في شيخوختهم، لكن الغريب أنّ يجيء هذان الصحفيان من الوسط الإعلامي في دولة متقدمة، وربما تتصدر دول العالم كله في مجال حماية الحريات العامة ومنها الحريات الصحفية.

لا أملك معلومات دقيقة أو موثقة حول مساهمة لوران وغراسييه في تنويرنا، نحن صحفيو العالم الثالث، بحقوقنا في العمل وفي تطوير الأداء، لكنني لا استبعد أن يكونا قد شاركا في إعطاء دورات للصحفيين العرب حول أخلاق المهنة وشرف العمل الصحفي!

ولأننا دائما معجبون بالنموذج الغربي، فإنني أعتقد أن عشرات الصحفيين العرب كانوا يقتدون بلوران وغراسييه، وخاصة أولئك الصحفيين المختصين بالتحقيقات الاستقصائية.

لكن كل ما تقدم لا يدين فرنسا ولا ينتقص من ريادتها في تشريع وحماية الحريات الصحفية، بل يؤكد أن البشر، ومنهم الصحفيون، سواسية في الخير وفي الشر، وألا أحد يستطيع الزعم باحتكار النبل والالتزام الأخلاقي.

لدينا في الوسط الإعلامي العربي عشرات النسخ من لوران وغراسييه، ولدينا نجوم في الإعلام لا يستطيعون الكتابة، ومنهم من لا يستطيع القراءة إلا بمشقة لكنهم يهبطون بالبراشوت على المواقع القيادية في الصحف وفي المنابر الإعلامية المختلفة، وذلك لأنّهم من المرضي عنهم وعليهم. وأعرف شخصيا صحفيين كانوا يرتشون بمبالغ أقل كثيرا من الثلاثة ملايين يورو التي طلبها الثنائي الفرنسي، بل إنّ صحفيين عربًا كانوا، وربما ما زالوا يرتشون بدعوة غداء أو عشاء.

في المقابل أعرف صحفيين عربًا دخلوا السجون بسبب التزامهم بالحقيقة، وأعرف زملاء جاعوا أو جوّعوا بسبب مواقفهم المبدئية التي حالت دون حصولهم على حقهم في العمل. وفي سياق نظافة اليد والضمير اذكر تجربتي مع زميلة صحفية اختيرت عضوا في وفد صحفي يرافق رئيس دولة عربية في جولة أوروبية، ولدى عودتها جاءت إلى مكتبي لتسلّمني مغلفًا يحتوي على ألف دولار، باعتبار هذا المبلغ حق للصحفيّة وليس للصحيفة التي تعمل فيها.

سألتها عن المبلغ ومن أعطاه لها، فأخبرتني أنّ موظفا كبيرًا في مكتب الرئيس سلّمها هذا المغلف في الطائرة كهدية من "فخامته"، ولم تستطع الزميلة أن ترفض قبول الهدية بسبب حرجها من الموقف، ولذلك فإنّها قررت التعامل مع الموضوع بشفافيّة والإفصاح عن المبلغ.

كان تصرّفها محترمًا ونزيها، خاصة وأنّ راتبها الشهري كان أقل من هدية "فخامة الرئيس"، لذا قبلت الصحيفة استلام المبلغ لكنّها أعادته إليها في شكل مكافأة.

زميلتنا تنتمي إلى الأغلبيّة النزيهة في الوسط الصحفي العربي، ولوران وغراسييه ينتميان إلى الأقليّة في الوسط الصحفي الفرنسي.

وتظل حريّة الصحافة عنوانا لا يخص القوانين والتشريعات فقط بل يشمل الصحفيين أينما كانوا.

تعليق عبر الفيس بوك