الإنسان بين الدين والحداثة

صالح البلوشي

اختلفت آراء الفلاسفة والمفكرين في نشأة الأديان إلى تفسيرات مختلفة فبينما تتفق الأديان السماوية الثلاثة على مرجعية الوحي فقط مع اختلاف في تفسيره، يرى فيلسوف الاشتراكية كارل ماركس، أنّ الأديان والفلسفات الدينية ما هي إلا وسائل صنعتها القوى الرأسمالية طوال التاريخ البشري من أجل تخدير الشعوب وتكبيلها بالأغلال باسم الدين؛ من أجل الاستسلام للقوى الرأسمالية والبرجوازية، لتعبث بها وبمقدراتها كيفما تشاء، وتبعث في نفسها عقيدة التواكل والخضوع الأعمى لها، أما عالم النفس الشهير سيجمند فرويد، فقد ذهب إلى اعتبار الدين (وهما)، وعصاب جماعي، حسب نظرية التحليل النفسي ويبدو ذلك واضحا في كتابيه (مستقبل وهم) و (قلق في الحضارة) ولذلك ذهب أنه لا سلطة تعلو فوق سلطة العقل، ولا حجة تسمو على حجته. بينما يرى الفيلسوف الإنجليزي راسل بان سبب نشوء الأديان هو ضعف الإنسان ومسكنته وخوفه من الحاضر، أما الفيلسوف فيورباخ فقد ذهب إلى تفسير الدين من وجهة نظر اجتماعية، إذ أنه ذهب إلى اعتبار الدين نوعا من الاغتراب، ورأى أنه بتطور الإنسان واتساع معارفه في الحقول المعرفية المختلفة؛ يكون قد عاد إلى ذاته، وثم يصبح لا حاجة إلى الدين.

وقد استطاعت ثورة التنوير التي انطلقت في أوروبا ابتداء من القرن السادس عشر، وما بعده، أن تنهي مرحلة هيمنة التفسير اللاهوتي/ الماورائي للكون والطبيعة وآمنت بقدرة العقل والتجربة كمصادر للمعرفة، وأسهمت المجادلات اللاهوتية العقيمة والخلافات الكلامية التي تزخر بها الأديان المختلفة والمذاهب المتنوعة في كثير من المسائل الدينية في فقدان كثير من الناس أهمية الشعور الديني والإيمان في حياتهم، وزادت الأحزاب الدينية، القائمة على أيديولوجية العنف في القضاء على الجزء الباقي منه. لقد استطاعت التيارات الدينية الأيديولوجية أن تسجن مفهوم الدين ضمن سياج دوغمائي مغلق وسجن لاهوتي كبير لا يتسع سوى مجموعة واحدة من البشر فقط، تتفق على مبادئ دينية وعقدية معينة، وتعتقد بأن كل من يخالفها في رؤيتها الأيديولوجية لا يستحق معنى الإيمان وخارج عنه، لذا لا تشمله رحمة الله ورضوانه ومغفرته، إن هذه النظرة الدوغمائية الضيقة لمفهوم الدين حولت الأديان السماوية / الأرضية، والمذاهب الدينية إلى أحزاب متفرقة تتقاتل في ما بينها وتسفك الدماء، وتهتك الأعراض؛ لأجل ما تعتقد أنه تحقيق لرضا الله وطاعته وأسهمت في خلق ردود أفعال معاكسة لها -معتدلة ومتطرفة- اتجه بعضها إلى اعتناق المذاهب والأفكار المادية التي لا ترى في الكون سوى العلم والمادة فقط، وأخرى لم تفقد إيمانها بربها ولكنها آمنت بفكر التنوير الذي أنطلق من أوروبا وتأثرت بفكر النهضة والتنوير وبفلاسفته الكبار أمثال: سبينوزا، وكانت، وهيجل، وديكارت، وجون لوك، وغيرهم، وآمنت أيضًا بالتسامح القائم على الاعتراف بحق الآخر في الاختلاف ومشروعيته، وبالتعددية الدينية والفكرية، ورأت أنّه الطريق الوحيد للنهضة والتقدم والحضارة، والسلام العالمي، وأخرى كفرت بكل أشكال العقلانية والتنوير الشرقي والغربي معا وآمنت أنّ الطريق إلى التقدم والحضارة هو الرجوع إلى النصوص الدينية حسب فهم السلف الصالح، وكثير منها لجأت إلى استخدام السلاح من أجل فرض رؤيتها الأيديولوجية على الآخرين، مثل: الجماعات المتطرفة التي تنتشر في بعض البلاد الإسلامية كالقاعدة وأخواتها.

وفي الوقت الذي أسهمت فيه الحداثة في إحداث نقلة نوعية كبيرة في تاريخ البشرية استطاعت أن تنتقل بها من مرحلة التفكير الخرافي والأسطوري إلى التفكير العلمي، وخلق أكبر ثورة في تاريخ الكون في التكنولوجيا والعلم والمعرفة والطب والفيزياء وغيرها، هناك من يرى أنّها أسهمت في الوقت نفسه أيضًا في القضاء على الشعور الديني للإنسان ونشر الخواء الروحي والتفكير المادي لديه، ومسخ هوية الإنسان وخلق أجيال ضائعة لا تعرف معنى للهوية أو الأخلاق أو الهدف من الحياة.

إنّ الخطر الذي يواجه العالم اليوم لا ينحصر في الحركات الأصوليّة التي تشهد نموًا متصاعدًا في جميع السياقات العالمية الإسلامية منها والمسيحيّة وحتى الهندوسية فقط، ولا في التعصب الديني الذي يفتك بمجتمعات متعددة تنتشر فيها ثقافة الفتنة والقتل على الهوية، والسيارات المفخخة التي تستهدف أماكن العبادة والمزارات الدينية وغيرها، وإنّما أيضًا في أمراض الحداثة، حسب وصف المفكر اللبناني علي حرب، التي خلقت واقعا مريرًا لم يكن يدور أبدًا في خلد فلاسفة النهضة والتنوير أنّهم سوف يُسهمون فيه بشكل غير مباشر -طبعا- باستثناء الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، الذي نبه الغرب إلى المخاطر المحتملة لثورة الحداثة على مستقبل البشرية، وما سلسلة الكتابات النقدية التي تصدر في أوروبا اليوم بواسطة كثير من الفلاسفة والمفكرين ورجال الدين المتنورين إلا محاولة لإنقاذ العلمانية والحداثة من الانحراف المادي الذي كاد أن يقضي على الحياة هناك، وربما يتوهم البعض أنها ثورة على العلمانية؛ ولكنها ليست كذلك فأوروبا نفضت وإلى الأبد فكرة العودة إلى ما قبل الإصلاح الديني وعصر التنوير ولا يوجد هناك من يدعو إلى ذلك اليوم سوى بعض المجموعات الدينية المتطرفة التي لا شعبية لها إلا في كنائسها فقط، وإنّما نقدا لها في محاولة لقراءة أخرى لها تحترم الجانب الروحي في الإنسان، فأوروبا لم تتوقف عن النقد، بل تمضي إلى النقد ونقد النقد فالمعرفة لم تتوقف عند كانت وهيجل وسبينوزا ولا عند ميشيل فوكو وجاك دريدا وهابرماس والمدرسة التأويلية عند البروتستانتية وإنما تمضي من أجل تنوير تتصالح فيه الحداثة مع الدين في الوقت الذي لا يزال المفكرون العرب يعملون من أجل أن يتصالح الدين مع الحداثة.

تعليق عبر الفيس بوك