د. هبة محمد العطار
لم تعد هشاشة العلاقات ظاهرة فردية معزولة؛ بل باتت انعكاسًا مباشرًا لتحولات اجتماعية ونفسية أعمق فرضتها إيقاعات الحياة المعاصرة؛ فالعلاقة الإنسانية، بوصفها بناءً اجتماعيًا مركبًا وخبرة إنسانية ممتدة، لا تنهار فجأة، وإنما تتآكل ببطء نتيجة اختلالات في التكوين والوظيفة والمعنى. وما يبدو انهيارًا مفاجئًا هو في حقيقته حصيلة تراكم صامت لفقدان العمق، وغياب الوعي، وتراجع الالتزام.
من منظور اجتماعي، أسهمت الحداثة السائلة، كما يصفها زيغمونت باومان عالِم الاجتماع البولندي، في إعادة تشكيل العلاقات على أساس المنفعة واللحظة الراهنة، لا على أساس الالتزام والاستمرارية. فقد انتقلت الثقافة الاستهلاكية من مجال الأشياء إلى مجال البشر، وأُعيد تعريف العلاقة بوصفها تجربة قابلة للاستبدال لا مشروعًا إنسانيًا طويل الأمد. وبهذا التحول، فقدت العلاقات قدرتها على الصمود أمام الخلاف، وأصبحت أولى الأزمات مبررًا كافيًا للانسحاب لا للمواجهة.
أما من المنظور النفسي، فتشير نظريات التعلق إلى أن أنماط التعلق غير الآمن، سواء القلق أو التجنُّبي، تُنتج علاقات هشة بطبيعتها. فالفرد القلق يعيش في خوف دائم من الفقد، ويحوّل العلاقة إلى مساحة اختبار مستمر للطمأنة، بينما يرى التجنُّبي في القرب تهديدًا لاستقلاله فيلجأ إلى الانسحاب والانفصال العاطفي. وفي غياب الوعي بهذه الأنماط، تتحول الخلافات الطبيعية إلى أزمات وجودية تهدد العلاقة من جذورها.
وأكاديميًا، تؤكد نظريات التواصل أن ضعف الكفاءة التواصلية يمثل عاملًا حاسمًا في هشاشة العلاقات؛ فالعلاقات التي تفتقر إلى مهارات الحوار، وإدارة الصراع، والتعبير الصريح عن الاحتياجات، تتحول سريعًا إلى مساحات سوء فهم متراكم. ويُستبدل التواصل الفعّال بالصمت العقابي، أو التأويل، أو الانسحاب العاطفي، وهي ممارسات تُفقد العلاقة قدرتها على الإصلاح الذاتي وتُسرّع من تفككها الداخلي.
كما يُعد غياب الوضوح القيمي أحد أخطر مصادر الهشاشة. فالعلاقات التي لا تقوم على أرضية مشتركة من القيم والحدود الأخلاقية تظل كيانات مؤقتة، تتماسك في لحظات الانسجام وتنهار عند أول اختلاف جوهري. وتشير المقاربات السوسيولوجية إلى أن الاتفاق الضمني على القيم يمثل شرطًا أساسيًا للاستقرار الاجتماعي المصغر الذي تجسده العلاقة الثنائية.
ولا يمكن إغفال الدور المتنامي للبيئة الرقمية في تعميق هذه الهشاشة؛ إذ خلقت وسائل التواصل الاجتماعي نمطًا من القرب الزائف، حيث تتكثف التفاعلات السطحية على حساب العمق الوجداني. كما غذّت المقارنات الاجتماعية المستمرة شعورًا دائمًا بعدم الرضا، ورسخت توقعات مثالية وغير واقعية عن العلاقات، ما جعل الإحباط أسرع، والانفصال أقل كلفة نفسيًا.
من منظور فلسفي، وعلى المستوى الوجودي العميق، يمكن قراءة هشاشة العلاقات بوصفها تجليًا لأزمة معنى يعيشها الإنسان المعاصر. فالعلاقة الإنسانية ليست مجرد تفاعل نفسي أو ارتباط اجتماعي عابر؛ بل هي في جوهرها فعل اعتراف متبادل بالوجود. وكما يرى هيغل، لا يتحقق وعي الذات بذاتها إلا عبر الآخر، غير أن هذا الآخر في كثير من العلاقات الحديثة لم يعد يُستقبل بوصفه غاية وجودية؛ بل أُعيد اختزاله إلى وسيلة للإشباع العاطفي أو الرمزي. وعندما يتحول الآخر إلى وظيفة، تفقد العلاقة بعدها الإنساني، وتغدو قابلة للانهيار عند أول اهتزاز.
وتكشف الفلسفة الوجودية أن هشاشة العلاقات ترتبط بقلق الحرية أكثر مما ترتبط بفشل المشاعر. فالإنسان المعاصر، كما يصفه الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، مُلقى في عالم بلا يقين، ومسؤول عن اختياراته دون ضمانات. وفي هذا السياق، يُنظر إلى العلاقة بوصفها التزامًا ثقيلًا يهدد وهم السيطرة والاستقلال، فيلجأ الفرد إلى علاقات خفيفة، سريعة، لا تحتمل الامتحان الأخلاقي ولا الزمن الطويل، هروبًا من عبء المسؤولية تجاه الآخر.
ومن منظور هيدغر، تنشأ العلاقات الهشة داخل نمط الوجود الزائف، حيث يعيش الإنسان وفق ما يُتداول اجتماعيًا لا وفق تجربة أصيلة للذات؛ فالعلاقة هنا تُعاش بوصفها صورة، أو سردية، أو حضورًا رقميًا، لا كخبرة وجودية حقيقية. ومع غياب الحضور الأصيل، يتآكل الصبر، ويضيق الاحتمال، وتفقد العلاقة قدرتها على عبور الأزمات بوصفها تجربة مشتركة لا عبئًا فرديًا.
أما على مستوى الفلسفة الأخلاقية، ولا سيما عند الفليسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس، فإن العلاقة بالآخر لا تُختزل في الاختيار أو المنفعة؛ بل تُفهم بوصفها مسؤولية سابقة على الإرادة. وحين تُدار العلاقة بمنطق التوازن الحسابي بين الأخذ والعطاء، وتُفرغ من بعدها الأخلاقي، تصبح هشة بطبيعتها، وتنهار فور اختلال هذا الميزان، لأن ما كان يحفظها لم يكن المعنى؛ بل المصلحة.
يمكن فهم انهيار العلاقات الهشة بوصفه نتيجة اغتراب مزدوج.. اغتراب عن الذات، واغتراب عن الآخر؛ فالفرد الذي لم يُنجز مصالحة داخلية مع هشاشته الوجودية، يبحث عن علاقة تُعوض نقصه لا عن علاقة يُشارك فيها وجوده. وحين تعجز العلاقة عن أداء هذا الدور التعويضي، تُستبدل دون وعي أو مراجعة أو حتى حداد.
إنَّ انهيار العلاقات الهشَّة لا يُعد فشلًا شخصيًا بقدر ما هو نتيجة منطقية لبناء غير مكتمل. فالعلاقة المتينة ليست نتاج الانسجام الدائم؛ بل ثمرة وعي اجتماعي، ونضج نفسي، ومهارات تواصل مكتسبة، والتزام أخلاقي، واتساق قيمي واضح، وفي عالم يُمجّد السرعة والبدائل، يصبح البقاء داخل العلاقة فعلًا فلسفيًا مقاومًا للسطحية، وموقفًا وجوديًا يعيد للإنسان معناه قبل أن يعيد له الآخر.
