هند الحمدانية
أعترفُ اليومَ على مشارف ختام 2025، أنني عشتُ هذا العام بكلِ ما أُوتيتُ من قوةٍ، لم أعطِ شعورًا منقوصًا، ولم أعشْ لحظة باردة الملامح، كنتُ في كل مرة في الأوج، في أوج الإحساس، في أوج الثقة، في أوج الحضور، في أوج العطاء، حتى حين لم تنجح الحكايات، كانت حقيقية في لحظتها، وحتى حين خسرت، كنت أخسر بشرف الصدق، كنت أضع روحي على الطاولة كاملة، لا ورقة ناقصة ولا قلبا مشتتا، ولهذا لا أندم، لأنَّ الصدق لن يخذل صاحبه أبداً.
أخرج هذا العام كما تخرج امرأة من معركة ناعمة، لا أرفع راية النصر ولا أرتدي ثوب الهزيمة؛ بل أحمل جسدي كما هو: مُتعبًا بما يكفي ليعرف معنى الراحة، وحيًا بما يكفي ليبدأ من جديد، تعلمت أن السنوات تقاس بعدد المرَّات التي اضطُررتُ فيها لأن أكون شجاعة، وبعدد اللحظات التي كنت فيها حاضرة بكل وجودي هيبة وصوتاً وبهاءً رغم كل شيء.
أُراجع علاقاتي كما أراجع فصول كتاب قديم، بعض الأسماء بقيت لأنها استحقت البقاء، وبعضه غاب لأنه أتم دوره وغادر في وقته الصحيح، وبعضها لم يُغادر فعلًا؛ بل غيَّر مكانه في القلب، لم أعد أغضب من الرحيل كما كنت، ولم أعد أراه خيانة دائمًا، صرت أفهم أن بعض الوداعات رحمة، وأنَّ بعض الغياب حماية لا نفهم حكمتها إلا بعد حين.
وتتشابك خيوط العائلة في كل تفاصيل العام، وأعودُ بعيني إلى دائرتي القريبة، فأرى وجوهًا تُشبهني وأعرفها جيدًا، أرى أمًّا كانت دفئًا في كل الفصول، وأبًا رغم رحيله ظل أمانًا يسكن قلبي، وأرى عائلة لم تكن كاملة كما في الصور، لكنها كانت حقيقية وصادقة، لم أعد أبحث في القريبين عن الكمال؛ بل عن الانتماء... ذلك الشعور الذي يُدثِّر الروح، فتشعر معه أن هناك من يَقبَلُك كما أنت، ويتقاسم معك تاريخك وذكرياتك وإيمانك وهزائمك وانتصاراتك وظروفك وملامح وجهك.
أشهد مع أبنائي البداية كما لم أشهد بداية أخرى، أراهم يأتون إلى هذه الحياة، وأرافق خطواتهم الأولى، وأرتِّب أحلامهم الصغيرة، وأجمع خوفهم حين يسقطون، وأخبئ دعائي في جيوب حقائبهم المدرسية دون أن يشعروا، أكبر معهم عامًا بعد عام، أفرح بضحكاتهم، بارتباكاتهم، بأول حروفهم وبأعياد ميلادهم، وبأخطائهم الصغيرة التي تشبهنا أكثر مما تشبههم، ثم أتوقف عند حقيقة لا أحب النظر إليها طويلًا، أنني أعرف كيف تبدأ حكايتهم، لكنني أجهل أين ستأخذهم الحياة، وإلى أي الجهات ستميل أرواحهم، ابني معهم شخصياتهم المحبة والرائعة، ثم أسلمهم للقدر راجية أن يكون العالم ألين عليهم مما كان عليَّ.
ويتسلل إلى أرواحنا في هذا العالم سؤالٌ مُوجعٌ عن القضايا التي لا تنتهي بنهاية الأعوام، وعن الظلم الذي رافق شعباً أعزل أكثر من خمسة وسبعين عامًا، أرى أرضًا بعيدة تنادي من بين الركام، وأرى أطفالًا ترتعد أطرافهم من برد لا طاقة لهم به، وأرى خيامًا تغرق مزقها المطر والريح، ونازحين يواجهون الموت بردًا في العراء أمام الكاميرات والأضواء، وأشهد على وطن عربي يحتفل ويرقص في ليالي الأُنس والشتاء، لكنه يعجز عن أن يمد يده لكف الظلم أو حتى بالعون وربما نسي الدعاء، وأُصيخُ لصوت الملثم الذي تجاوز المدى، فبقي حيًا رغم الحصار ورغم العدا، يكفي أن نفهم أنَّ ختام العام لا يمحو الخذلان، وأن المقاومة روح تسري في الوجدان، وأن النصر أقرب من أي وقت كان.
وتبقّت من العام تلك التفاصيل التي لا يراها غيرنا: كلمة صدق قيلت في وقتها، واعتذار جاء متأخرًا، لكنه جاء، لقاءً قصيراً غيَّر مسار يوم كامل، خطوة شجاعة، دمعة في سجود، سؤال من صديق قديم، ودعاء غريب لغريب.
وأنهض في يوم ميلادي في آخر يوم من العام، فأجدُني أكثر فهمًا للحياة وأقل خصومة معها، مُمتنة لأنني خرجت من هذا العام أعرف نفسي أكثر وأطالبها أقل، مُمتنة لكل شيء كان، مُمتنة للأشياء والأشخاص والأيام والذكريات والأحلام، مُمتنة لله ولهذه القدرة التي أودعها في قلبي الذي ما زال قادرًا على العطاء والإحساس والإحسان.
هو عام جديد بروح جديدة، لا تزيدها الأعوام إلّا جمالًا ونضجًا وإيمانًا ويقينًا.
