جبال بارتفاع نصف ذراع

 

 

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

 

رافضًا للتَّراجع والانحسار خرجَ سعيد من بيتهِ صبيحة الثالث من ديسمبر وفي النَّفس شَيْءٌ من حسرةٍ وفي العين انكسار لكن روحهُ مليئةً بالعزم والإصرار، وإذا كانت رِجلاه لا تقويان على حملهِ ويستعيضُ عنهما بيديه وكُرسيه المُتحرك؛ ففي ذلك تحدٍ لكُل الظروف المُحيطة بعدم الرضوخ لها والتمرُّد على الواقع الذي يُحاول كل ساعةٍ بسط نفوذهِ بالقوة على الأشخاص ذوي الإعاقة الحركية ممَّن يجدون أنفُسهم كرهًا في مواجهة العوائق اليومية، ودرجاتٍ تُعادل العتبة الواحدة منها جبلًا يفرضُ إحباطه شِبه الدائم في مقاييس سعيد وأقرانه، وقد يُفضي بهم الحال أحيانًا إلى تأجيلِ عملٍ مُهم أو إلغائه، حتى بات من المُسلَّمات الواجب ابتلاع مرارها مع جرعة صبرٍ إضافية فوق صبر مُعاناتهم الخفية.

بعجلاتِ كرسيه التي تُشبه في حركتها تُروس الساعة وبخللٍ بسيطٍ في دورانهما تتعطل الحركة ويختَّل الوقت، ينطلق سعيد في موعدهِ يوم الأربعاء لإنجاز بعض الشؤون ذات الأثر المُتوقع على مُستقبله، وتُخالجه نفسُه باحتمال سماع قرارٍ أو خبر يخدم فئةً مُهمةً من المُجتمع، لا سيَّما أنَّه اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة، وبما أن الوقت مُصممٌ للجميع دون استثناء ولا يُفرق بين أحد ولا يُقسم الإنسان على هيئةِ فئاتٍ بحسب احتياجاتهم، فإن اللفتةَ الإنسانية هي التي تُقدم الأولويات وتستثني الضرورات بتفاعلها مع دواليب المُتحركات وتواؤمها مع مُسنَّنات الأوقات، حينها يُقاوم سعيد خُشونة الطريق وهو يشعر بهِ في اهتزازات كرسيه وذبذبات إبهامهِ الأيمن وسبَّابتيه، ورياح الأمل تدفع بأشرِعته قُدمًا وتستَحثُّه على السعي والمُواصلةِ بوجوب التغلُّب على الأمواج العاتية والتيارات المُضادة، حتى إذا لاحت على مُحياه بارقةُ ابتسامةٍ سريعة بادرتها ضحكة ساخرة بمدى قُدرة الإنسان على تَمهيد كل تلك الطرق للسيارات وبسط المساحات لمواقفها، وتهيئة مداخِل الأبنية بعتباتِها المُتعددة والمصاعد الكهربائية ودورات المياه لخدمة الناس والمُجتمع، "ألست من الناس ومن المُجتمع وهل اخترت مصيري وهم اختاروا مصائرهم"؟ سعيد مُحدثًا نفسه تعجُبًا وليس اعتراضًا.

لا يُوجد سوى موقفٍ واحدٍ لذوي الإعاقة وقد سبقهُ إليه أحدهم مُبكرًا بسيارتهِ الفارهة، وحسنُ ظن سعيد سبَّاق لافتراض أن من سبقه في حاجةٍ للموقف أكثر مِنه فيتوقف بعيدًا وذلك ليس بجديد عليه، كما أنها فُرصة لدحرجة كُرسيه بِهدوء وإمعان النظر في واجهة المَبنى المُهيب بارتفاعه وتعدد طبقاتهِ والمساحات الزُجاجية العاكسة غير القابلة للكسر وبالتأكيد أن المُتكيفين داخل أبعاده يرون من هُم بالخارج والعكس غير صحيح، لتتكسر لحظات التأمل الهشَّة بالتعرق مع شمس الضُحى عندما يبحث سعيد ولوقتٍ طويل عن مدخلٍ لكرسيه أمام رصيف الصرح الحصين، ويُخيل له أنه جاء غازيًا وليس لقضاء مصلحةٍ لا تتطلب سوى عدةِ دقائق، فيلوح له أخيرًا مُنحدر دخول الكُرسي المُتحرك وكأنَّ من قام بتصميمِ ميلانه كائن فضائي لا يعلم شيئًا عن علاقةِ الوزن بالجاذبية على كوكب الأرض، فيقف سعيد أمام العقبة الكؤود منتظرًا ومُتفكرًا.

الكُل يُهرول خلف ساعته ويريد قضاء مصلحته وكلٌ له معياره ومقياسه وعلاقته بالزمان والمكان، فمنهم من يريد استثمار الوقت والانتهاء سريعًا لانشغاله بتخليص أمرٍ آخر في مكانٍ آخر وفي نفس اليوم، ومنهم من يستغِّل إمكاناته ومهاراته في مُمارسة ألعاب العقل بالتلون والتصنُّع، وبالطبع لا توجد أمامهم عقبَاتٍ تُعرقل حركتهم، وسعيد يرمُقهم بنظراتهِ على وجلٍ وأمل وهو عالِقٌ بين برزخ الشارع والرصيف بعد أن خارت من محاولات الصعود قُواه واحمَّر وجههُ وكلَّت أصابِعه ويداه، فماذا لو كان الرصيف في واجهةِ المبنى بارتفاع مترٍ ونصف المتر؟! هل يا ترى سيتمكنون من اجتيازهِ والدخول بسهولة، وهل سيعتبرون ذلك الأمر طبيعيًا وعليهم التعايش معه بنفسٍ راضية، وهل سيسكتون؟! أم سيشتكون ويطالبون بتسهيل حركتهم ويبحثون عن الحلول سريعًا مع المسؤولين وجهات الاختصاص؟!

يمضي الوقت وفجأةً تدور عجلات الكرسي المُتحرك كأنَّ قوةً مُضادة للجاذبيةِ نقلته من وضع السكون الى التسارع وتشدهُ إلى الأمام، مُبشرةً سعيد بتخطي جبل العتبةِ الأولى مع دفعةٍ أبويةٍ من رجُلٍ مسُّن لمح حالة الجمود وهو يقول: أعلم عن هذا المُنحدر الحاد، وقد جئت إلى هُنا من قبل مع ابنتي وهي مُقعدة وتستخدم كرسيها الكهربائي المُتحرك، فأضطر الى اسنادِها حتى لا تنقلب إلى الخلف، ويرد عليه سعيد: لقد مر من عندي بعض الشباب ولكنهم لم يلحظوا وجودي ومن ألقى منهم السلام لم يقتنِص عقله حاجتي للمُساعد، ويبدو لي أن المسألة تدور حول الوعي العام وليست مسألة تجنُّب المُساعدة او التعاون.

إن ثِقل الواقع أحيانًا أكبر من القُدرة على التحمُّل ولكن هذا لا يعني الاستسلام أو إظهار الشعورِ بالضعف، وكل مُحاولةٍ صغيرةٍ استحقت العناء في ظروف المُعاناة تُصبح كبيرةً وجديرة بالاحترام، وهواء التكييف البارِدة الآن يُشعرني بالتساوي مع الجميع في تكافؤ الفُرص من حيث حق الاستمتاع بِنسماته، وهي مُكافأة هذا المبنى بتقديم اعتذارٍ صامت عمَّا حدث لي في الخارج "سعيد متفائلًا"، فيسأل الموظف في مِنصته المُرتفعة التي لا يرى منه سوى قمة رأسه عن موقع دورات المياه، حتى إذا تجاوز بكُرسيه الممَّرات الضيقة وقلق الاضطرار لاستخدام المِصعد وصولًا إلى دورةِ مياهٍ مُخصصة لذوي الإعاقة وجدها أكثر ضيقًا ولا تتسع له مع الكُرسي، كما أن النجَّار الخبير الذي قام بتصميم وتركيب الباب جعلهُ يُفتح للداخل مما يزيد من المُعوقات وصعوبات الاستخدام، وكأني بلوحةٍ مكتوبة بالحبر السري ومعلقة هناك تقول: لا توجد لدينا معايير ومقاييس خاصةً بكم، وعليك الرضا بالموجود.

أكثر ما يحز في النفسِ هو شعور المرء بالغُربة في وطنه، ليس لأنه مُختلف عن الآخرين فهذا امر مسلمٌ به، بل لأن البيئةَ الطاردة من حوله تُصر على تهميشه، إذ أن الشخص المُعاق حركيًا يحتاج لتبسيط منافع الخدمات ومُلحقاتها أكثر من غيره، ولكنه يجدها تزيد من حجمِ مُعاناته اكثر مما يُعانيه اصلًا، فيعود سعيد الى بيته بعد الظهيرة دون أن يسمع الخبر الذي اختلجت به نفسه صباحًا ولا تزال السيارة التي سبقته الى موقف ذوي الإعاقة جاثمة مكانها كالجلمود، وقلبهُ يَفيض بعتبِ المُحب مع اتساخ يديه وما أصابهُما من جروح وهو لم يُنهِ ما جاء لأجله اليوم، لكنه يُصمم على المُحاولة مُجددًا وغدًا يومٌ آخر: سأخرج ثانيةً وثالثة وعاشرة، ليس لأن الطريق مُمهد بل لأني قررت أن أمهِّد بوجودي وعزيمتي طريقًا لي ولِمن هم على شاكلتي ولمن سيأتون من بعدي، وليعلم الجميع أن الإعاقةَ ليست في مُمتطي العجلات وإنما في تفكير العقليات، والمدينةِ التي لا تُراعي سهولة تنقل المُعاق حركيًا مدينة مُعاقة مِعماريًا وهي من تستحقُ الشفقة وليس سعيد.

الأكثر قراءة

z