متى تصبح السياسة اللبنانية مصدرًا للبرامج الوطنية؟

 

 

 

جان يعقوب جبور

في لبنان، لم تكن السياسة يومًا فقيرة بالكلام، لكنها كانت دائمًا شحيحة بالبرامج؛ فمنذ عقود، تدور الحياة السياسية في حلقة مفرغة من الخطابات الطائفية، والتجاذبات الشخصية، والتسويات الظرفية، فيما يغيب السؤال الجوهري: متى تتحول السياسة اللبنانية إلى مساحة لإنتاج برامج وطنية حقيقية تعالج أزمات الناس والدولة؟

الواقع أن السياسة في لبنان لم تُبنَ بوصفها أداة لإدارة الشأن العام، بل كامتداد لتوازنات طائفية ومذهبية، جعلت من الزعيم بديلًا عن المؤسسة، ومن الولاء بديلًا عن الكفاءة. في هذا السياق، تصبح البرامج الوطنية ترفًا لا ضرورة، وتُستبدل برفع الشعارات أو استدعاء المخاوف الوجودية عند كل استحقاق.

لا يمكن الحديث عن برامج وطنية في ظل نظام سياسي يجعل الطائفة وحدة العمل السياسي الأساسية. فالبرامج بطبيعتها عابرة للهويات الضيقة، بينما يقوم النظام اللبناني على تكريس هذه الهويات في الانتخابات، والإدارة، وتوزيع النفوذ. والنتيجة أن الأحزاب تُخاطب جمهورها بوصفه جماعة خائفة لا مواطنين أصحاب حقوق.

وغياب المحاسبة وانعدام المنافسة البرامجية تنعكس سلبًا على الانتماء الوطني والسيادة؛ ففي الدول التي تُنتج برامج وطنية، يتنافس السياسيون على الرؤى: كيف يُصلح الاقتصاد؟ كيف تُدار المالية العامة؟ كيف تُحمى السيادة؟ أما في لبنان، فغالبًا ما تُحسم الانتخابات بالانتماء لا بالأداء، وبالخطاب العاطفي لا بالخطط. وحين تغيب المحاسبة، تنتفي الحاجة إلى البرنامج. يضاف إلى ذلك، أن الارتهان للخارج وتشويه الأولويات يمثل عاملًا خطيرًا يتمثل في ارتباط جزء من القرار السياسي اللبناني بمحاور خارجية؛ فالسياسي المرهون لا يُنتِج برنامجًا وطنيًا، بل يُدير مصالح، ويُكيِّف مواقفه وفق حسابات لا علاقة لها بحاجات الدولة والمجتمع.

والدولة الغائبة والمؤسسات المُعطّلة من أهم العوامل التي تؤدي إلى غياب الوطنية والمواطنة؛ لأن البرامج الوطنية تحتاج إلى دولة، لا إلى ساحة مفتوحة للتسويات. وحين تتحول المؤسسات إلى أدوات تعطيل أو مقايضة، يفقد العمل السياسي معناه الإصلاحي، ويصبح مجرد إدارة أزمات متراكمة.

ورغم قتامة المشهد، يبقى الرهان على تحوّل تدريجي في وعي الرأي العام، خصوصًا لدى الأجيال الشابة التي بدأت تطرح أسئلة خارج القوالب التقليدية. فكل ضغط شعبي مُنظَّم، وكل مُطالَبة بالمحاسبة والشفافية، تُجبِر القوى السياسية على الانتقال من منطق التعبئة إلى منطق التخطيط.

وفي الخلاصة.. تصبح السياسة اللبنانية مصدرًا للبرامج الوطنية عندما تُفكّك بنيتها الطائفية، ويُعاد تعريف العمل السياسي بوصفه خدمة عامة لا وسيلة نفوذ. وعندما يدرك اللبنانيون أن مستقبلهم لا يُبنى بالخوف ولا بالولاءات؛ بل برؤية وطنية جامعة تُقاس بالنتائج لا بالشعارات. وحتى ذلك الحين، ستبقى السياسة في لبنان ساحة صراع، لا ورشة إنقاذ.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z