هلال عون **
تنهض قصيدة "عميقٌ كتنهيدة العشق" على وعي شعريٍّ يرى الحب لا بوصفه حالة وجدانية عابرة، بل باعتباره مدخلاً إلى المعرفة، ومجالاً لانكشاف اللغة على معناها الأقصى.
فالعنوان نفسه لا يكتفي بوصف الشعور، بل يشحنه ببعدٍ تأمليّ، إذ يُشبّه العمق بتنهيدة، والتنهيدة فعل صامت، خافت، لا يُرى بقدر ما يُحَسّ، وكأن الشاعر يعلن منذ البدء أن ما سيقوله لا ينتمي إلى الكلام الصريح، بل إلى ما يُلتقط بالحدس والإنصات الداخلي.
منذ البيت الأول، تتحرك القصيدة بحركة سفر، لا بالمعنى المكاني فحسب، بل بالمعنى الوجودي. فـ"عتاق المطايا" التي تخبّ إلى المخاطَب ليست مجرد وسيلة انتقال، بل رمز للمعنى وهو يشق طريقه نحو الآخر، محمولا على الإرث والقِدم والأصالة. اللافت أن هذه المطايا لا تنقل جسدا، بل "تسرّح معنى وتعزف نايا"، فيتحول المعنى إلى كائن موسيقي، وتصبح اللغة فعل عزف لا فعل إخبار.
هنا يضع الشاعر قارئه أمام نص لا يريد أن يُفهَم بقدر ما يريد أن يُسمَع ويُعاش.
يتكرر هذا المنحى في تصوير الحب بوصفه حالة انسكاب، كما في قوله: "تمر كأغنية من جنون تلقفها القلب فانصب آيا".
فالأغنية، وهي بطبيعتها مؤقتة وعابرة، تتحول حين يلتقطها القلب إلى "آيات"، أي إلى خطاب ثابت، مقدّس، قابل للتأويل والترديد.
بهذا الانتقال، يعيد الشاعر تعريف الحب: إنه لحظة جنون.. نعم، لكنه جنون منتج للمعنى، ومؤسس لنسقٍ من الدلالة يشبه الوحي في أثره لا في مصدره.
ومع تقدم القصيدة، تتكثف اللغة وتزداد جرأتها، فتدخل الذات الشاعرة في تماس مباشر مع مفردات الاصطفاء والفيض.
حين يقول: «أخبئ فيها اشتهاء الخلود فيهطل وحياً ضجيج الخلايا"، نكون أمام صورة شديدة التركيب، تمتزج فيها الرغبة الإنسانية العميقة في البقاء مع مفردات بيولوجية محضة، لكن هذا الامتزاج لا ينتهي في الجسد، بل يرتقي إلى الوحي.
الضجيج هنا ليس فوضى، بل حياة داخلية تستحق أن تُسمّى وحيا، وكأن الشاعر يعلن أن الكشف لا يحدث خارج الإنسان، بل في أدق خلاياه.
هذا المنحى يقود القصيدة تدريجياً نحو أفق صوفي واضح، حيث يصبح الحب تعليماً، والعمق درساً يُلقنه الغيب.
فالعمق، كما يقول، لا يُقاس إلا حين يعلّمه الغيب "أين مداه"، في إشارة إلى أن المعرفة الحقيقية لا تُنال بالعقل وحده، بل بالاستعداد الداخلي للتلقي. عند هذه النقطة، تبدأ اللغة نفسها في التحول إلى رسالة، إذ يطلب هذا العمق من الشاعر أن يتخذه "سنا عربيا"، أي نورا لغويا، ليُقرأ في انعكاس المرايا..
والمرايا، هنا، ليست سوى الذوات القارئة، التي لا تَرى النص إلا بقدر ما ترى نفسها فيه.
تتسع الدائرة أكثر حين يستدعي الشاعر رموزا نبوية كبرى، مثل موسى وهارون وجبريل.. غير أن هذا الاستدعاء لا يأتي على سبيل المحاكاة التاريخية، بل بوصفه تمثيلا لدور الشاعر كوسيط بين القول والسلطة، بين الكلمة والخطر.
فحين يشبّه نفسه بهارون أمام فرعون، يوحي بأن اللغة، مثل النبوة، تقف دائما في مواجهة الطغيان، وأن العصا التي تضيق ليست إلا أداة التعبير حين تُحاصر بالواقع.
في المقطع الأخير، تبلغ الأنا الشعرية ذروة اتساعها، فتغدو بحرا من المداد، وخلداً، وشهداً، وعمراً، ثم تتجاوز ذلك كله لتقول: "أنا لغة الله".. هذه العبارة، على ما فيها من جرأة قصوى، لا يمكن قراءتها قراءة حرفية، بل ينبغي تأويلها ضمن السياق الصوفي الذي يرى اللغة العربية، والشعر تحديدا، تجليّاً من تجليات القدرة على البيان.. غير أن هذا الاتساع، رغم مشروعيته الجمالية داخل النص، يضع القارئ أمام توتر دقيق بين الرمز والتضخم، بين الكشف والادّعاء، وهو توتر يمنح القصيدة قوتها الإشكالية.
في المحصلة، نحن أمام نص شعري عالي الكثافة، ينتمي إلى تقليد القصيدة الرؤيوية التي لا تكتفي بالغناء، بل تسعى إلى بناء تصور للعالم، وللحب، وللغة بوصفها صلاة كونية.
قد لا تكون القصيدة سهلة التلقي، وقد تفرض على قارئها جهدا تأويليًا مضاعفاً، لكنها في المقابل تكافئ هذا الجهد بفيض دلالي وصوري نادر، يجعلها تجربة شعرية جديرة بالتوقف الطويل والتأمل العميق.
** ناقد سوري
