خالد بن حمد الرواحي
من المفارقات التي يصعب تجاهلها، أن يتجاوز عدد الباحثين عن عمل حاجز المائة ألف مواطن، يضاف إليهم أكثر من سبعة عشر ألفًا من المسرّحين عن العمل، في وقتٍ تخطّى فيه عدد القوى العاملة الوافدة في القطاعين الحكومي والخاص 1.8 مليون عامل. مفارقة لا تقف عند حدود الأرقام؛ بل تفتح بابًا واسعًا للتساؤل حول فاعلية السياسات المعتمدة، ونهج إدارة ملف الإحلال والتعمين، ومدى انعكاسه الحقيقي على واقع سوق العمل.
السؤال هنا ليس: هل لدينا كفاءات وطنية؟ فهذا سؤالٌ تجاوزه الواقع والتجربة؛ بل السؤال الأعمق هو: لماذا، رغم ما حققته سياسات الإحلال والتعمين من نجاحاتٍ واضحة في مراحل سابقة، تراجع أثر التخطيط في السنوات الأخيرة، ولم تنعكس هذه الجهود بالقدر الكافي في مواءمة الكفاءات الوطنية مع سوق العمل؟
الإجابة عن هذا السؤال لا تحتاج إلى افتراضاتٍ نظرية، بقدر ما يمكن استخلاصها من التجربةِ العمانيةِ نفسها. فقد أثبتت، دون جدل، قدرة القوى العاملة الوطنية على إدارة أعقد القطاعات وأكثرها حساسية، من قطاع النفط والغاز إلى القطاع المصرفي؛ حيث تحققت إنجازاتٌ تراكميةٌ واضحةٌ على مدى سنواتٍ طويلة. وإذا كانت الكفاءة الوطنية قد نجحت في هذه القطاعات الاستراتيجية عالية المخاطر والتعقيد، فإن التساؤل يصبح أكثر إلحاحًا: لماذا يتعثر الإحلال في قطاعاتٍ اقتصاديةٍ أخرى يفترض أنها أقل تعقيدًا من حيث متطلبات المهارة والخبرة؟
وتزداد مشروعية هذا التساؤل حين ننظر إلى صورة الواقع العملي؛ فالأكثر إثارةً للانتباه أن أعداد القوى العاملة الوافدة في قطاعاتٍ حيويةٍ كالصحة والتعليم وغيرها، تشهد تزايدًا مستمرًا، في الوقت الذي ينتظر فيه آلاف الخريجين من تخصصاتٍ مطلوبةٍ فرصتهم الأولى في سوق العمل. انتظارٌ لا يمرّ بلا ثمن؛ إذ تتحول سنوات البحث عن وظيفةٍ إلى فجوةٍ مهاريةٍ تتآكل خلالها المعارف، وتضعف الممارسة، وتستنزف الطاقة النفسية والاجتماعية، ليجد الخريج نفسه مع مرور الوقت أبعد عن الفرصة بدلًا من أن يكون أقرب إليها.
ولا يمكن إغفال الأثرِ الاقتصاديِّ المباشرِ لهذه المعادلةِ القائمة؛ إذ تتزايد تحويلات القوى العاملة الوافدة إلى الخارج عامًا بعد عام، بما تحمله من تداعياتٍ واضحةٍ على الدورة الاقتصادية الوطنية، من حيث السيولة والإنفاق المحلي. ويحدث ذلك في وقتٍ تترك فيه طاقاتٌ بشريةٌ وطنيةٌ معطّلة، رغم أنها في سنِّ العطاء والإنتاج، كان من الممكن أن تسهم في تحريك الاقتصاد وتعزيز الاستقرار الاجتماعي لو أحسن توظيفها.
الخطر هنا لا يكمن في حالةِ البحثِ عن عملٍ وحدها؛ بل في طولِ أمدِ البحثِ عن عملٍ. فسنوات الانتظارِ المفتوح لا تمحى بوظيفةٍ متأخرة، ولا تجبرها رواتب متدنيةٌ لا تتناسب مع المؤهلِ العلميِّ ولا مع متطلباتِ الحياة، إذ يبقى أثرها عالقًا في المسارِ المهنيِّ والإنسانيِّ لصاحبها، مهما تبدّل الموقع أو تغيّر المسمّى.
وهنا يبرز سؤال الكفاءةِ بوضوح: ما معنى أن يقضي الطالب سنواتٍ في الدراسة الجامعية، وبعضهم على نفقةِ الدولةِ داخل البلاد أو خارجها، ثم يجد نفسه مضطرًّا للعمل في وظيفةٍ لا تمتّ إلى تخصّصه بصلة، أو لا تتطلّب مؤهّلًا ولا خبرة؟ أليس في ذلك هدرٌ مزدوج؛ للمالِ العامِّ من جهة، وللطاقةِ البشريةِ المؤهّلةِ من جهةٍ أخرى، كان الأولى أن تستثمر لا أن تهمل؟
المسألة، في جوهرها، ليست نقص فرصٍ فحسب، بل طريقة إدارةِ ملفٍّ. إدارةٌ تتطلّب شجاعةً في التقييم، وشفافيةً في المكاشفة، وجرأةً في تصحيح المسار. وحين تغيب هذه العناصر، أو لا تدار الملفات بالقدرِ الكافي من الاتساق مع المصلحةِ الوطنيةِ الأوسع، تتعطّل السياسات مهما حسنت نواياها، ويضيع الأثر العمليّ لما يعلن من أهدافٍ وبرامج.
فوجود شريحةٍ واسعةٍ من القوى العاملة الوطنية في سنِّ العمل خارج سوقِ الإنتاج ليس مجرّد تحدٍّ اجتماعيٍّ عابر، بل مؤشِّر خطرٍ اقتصاديٍّ مستقبليٍّ تتراكم آثاره بصمت. فالمجتمعات لا تحتمل طويلًا شعور الإقصاء، ولا يمكن أن تبنى الثقة على انتظارٍ بلا أفق، أو على وعودٍ تتأخّر أكثر ممّا تحتمل الأعمار.
الطريق إلى الحلِّ ليس مستحيلًا، لكنه يبدأ بإعادةِ ترتيبٍ جادّةٍ للأولويات: إحلالٌ حقيقيٌّ لا شكليٌّ، وربطٌ صادقٌ بين التعليم وسوق العمل، ومساءلةٌ واضحةٌ حول استقدام العمالة الوافدة في المهن الممكن توطينها، وتمكينٌ فعليٌّ للباحثين عن عمل عبر فرصٍ عادلة، لا عبر وعودٍ مؤجّلة. فحين تدار الملفات بوضوحٍ ومسؤولية، تتحوّل السياسات من شعاراتٍ إلى نتائج، ويستعيد الأمل معناه الحقيقي لدى من طال انتظارهم.
فالقوى العاملة الوطنية ليست عبئًا؛ بل رصيدًا استراتيجيًّا. وتأجيل استثمارِ هذا الرصيدِ خسارةٌ وطنيةٌ لا تقاس بالأرقام؛ بل بالأعمار.
