لا قداسة لما هو دنيوي

 

 

د. هبة العطار

 

يأخذُنى التفكير حول الأزمنة.. أجدُنى ضد تقديس الأزمنة.. لستُ ضد الماضي، ولا أعلنُ القطيعة معه، ولا أمارسُ جحودًا تجاه ما أنجزه الإنسان في لحظة ما من التاريخ، لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في احترام الماضي؛ بل في تأليهِهِ، وفي تحويله إلى كيان مُقدَّس لا يُمس، لا يُناقش، لا يُعاد النظر فيه، وكأنَّ الزمن توقف عنده واختار أن يمنحه حصانة أبدية.

نحن نُمجِّد القديم لا لأنه الأفضل دائمًا؛ بل لأنه آمِن، الماضي لا يُطالبنا بشيء، لا يُحرجنا بأسئلة جديدة، لا يكشف هشاشتنا الراهنة، لذلك نُسقط عليه صفات الكمال، ونتعامل معه كأنه أسطورة مكتملة، بينما هو في حقيقته كان يومًا ما حاضرًا مُرتبكًا، مليئًا بالأخطاء، محل نقد وسخط من معاصريه.

نحن لا نعيش أزمة حنين بريئة؛ بل أزمة وعي بالزمن؛ فالإنسان حين يعجز عن فهم حاضره أو التفاعل معه، يبحث عن زمن بديل أكثر طواعية، زمن لا يفرض عليه إعادة تعريف ذاته، وهكذا يتحول الماضي من خبرة إنسانية إلى ملاذ نفسي، ومن ذاكرة إلى أيديولوجيا.

نُمجِّد الفن القديم وكأنه بلغ ذروة لا تُستعاد، مع أن كل مدرسة فنية كبرى قوبلت في زمنها بالرفض والاستهجان؛ فالفن في جوهره فعل تمرُّد لا فعل استقرار، كل عمل فني عظيم كان في لحظة ميلاده صدمة، وخرقًا للذائقة السائدة، وخيانة لما قبله، ومع مرور الزمن يتحول التمرد إلى تراث، ويطالب الجيل الجديد بأن يحاكي ما كان يومًا فعل خروج.

وفي الحب، نحمل علاقات الماضي صفاء أخلاقيا لا يستند إلى الواقع؛ بل إلى رغبتنا في تبرئة الإنسان القديم من تناقضاته، نتجاهل القيود الاجتماعية، والصمت المفروض، والقهر غير المرئي، ونحتفي بصورة شاعرية مختزلة، بينما الحب في كل الأزمنة كان صراعًا بين الرغبة والواجب، وبين الفرد والجماعة، وبين الحرية والخوف، الذي تغير ليس جوهر المشاعر؛ بل شروط ظهورها وأدوات التعبير عنها.

أما العمارة، فنراها اليوم رمزًا للهوية والثبات، ونغفل أن كثيرًا من المعمار القديم لم يكن تعبيرًا عن رؤية إنسانية بقدر ما كان انعكاسا لبنية سلطة، وتدرج طبقي، ومركز وهامش، نعجب بالواجهات، وننسى الداخل، نحتفي بالزخرفة، ونتجاهل من لم يكن له حق الضوء أو الهواء أو المساحة.

الماضي لم يكن مقدسًا حين وُلِد؛ بل صار كذلك حين ابتعد عنا زمنيًا، ومع كل مسافة زمنية نضيف طبقة من الحنين، ثم طبقة من الانتقاء، ثم نمحو من ذاكرتنا كل ما لا يخدم الصورة التي نريدها، ومع الوقت يتحول الاحترام إلى انحناء، والفهم إلى تبرير، والنقد إلى خيانة.

نحن لا نرفض الماضي؛ لأنه نقطة الانطلاق التي خرجت منها كل التحولات، لكنه ليس نقطة التوقف، فالحاضر ليس خيانة للماضي؛ بل امتداده الطبيعي في شروط جديدة، والمشكلة الحقيقية ليست في التغير؛ بل في الخوف منه، الخوف من عالم سريع، مفتوح، غير مستقر، لا يمنحنا يقين التاريخ المكتمل؛ بل يفرض علينا مسؤولية الاختيار.

ومن هنا.. لا يمكن فصل تقديس الماضي عن طبيعة الخطاب الإعلامي والثقافة الجماهيرية؛ فالإعلام حين يعجز عن تفكيك الحاضر أو مساءلته بعمق، يلجأ إلى الماضي كمنطقة آمنة، يعيد تدويره في صورة سرديات الزمن الجميل، حيث تقدم الذاكرة لا بوصفها خبرة مركبة؛ بل كحكاية منقاة من الصراع.

تعمل الثقافة الجماهيرية على تبسيط الزمن، فتحول الماضي إلى قيمة جمالية خالصة، وتحول الحنين إلى سلعة رمزية تستخدم لتهدئة القلق الجمعي، وبدلًا من أن يساعد الخطاب الإعلامي على فهم تعقيد اللحظة الراهنة، يدفع المتلقي إلى الاحتماء بصورة مثالية لماض لم يعشه على هذا النحو أصلًا.

ومع التكرار، يتحول الحنين من شعور إنساني إلى موقف ثقافي، ثم إلى معيار للحكم، ثم إلى أداة لإدانة الحاضر، فيصبح الجديد مشتبهًا فيه قبل أن يفهم، والمختلف مرفوضًا قبل أن يناقش، والتجريب خطرًا يجب احتواؤه.

إنَّ أخطر ما يفعله هذا الخطاب هو أنه يفرغ الحاضر من شرعيته، ويحرمه من حقه في الخطأ والتجاوز، بينما الحقيقة أن كل زمن كان في لحظته زمن جدل وسخرية ورفض، قبل أن يتحول لاحقا إلى تراث يدافع عنه بشراسة.

لهذا، لا قداسة لما هو دنيوي، كل ما صنعه الإنسان قابل للنقد والمراجعة، القداسة الحقيقية ليست في الحجر ولا في اللحن ولا في الشكل؛ بل في القدرة على إعادة البناء، وفي الشجاعة على الاعتراف بأن لكل زمن جماله وأخطاؤه.

احترام الماضي لا يعني السكن فيه، وتقدير القديم لا يعني هدم الحاضر، الأخطر من فقدان الماضي هو فقدان القدرة على رؤية ما نعيشه الآن، فالأمم لا تموت حين تنسى تاريخها؛ بل حين تحوله إلى صنم.

نحن لا نؤمن بتقديس الزمن، ولا بمنح أي تجربة إنسانية حصانة أبدية، نؤمن بأن القيمة لا تقاس بالعمر، بل بالقدرة على الإضاءة المستمرة، نرفض تحويل الماضي إلى سلطة تدين الحاضر، ونعلن حق الحاضر في الوجود، في التجريب، في الخطأ، وفي البحث عن صوته الخاص دون ابتزاز عاطفي باسم الوفاء للتاريخ.

نطالب بذاكرة واعية لا متحفية، وبخطاب إعلامي يفتح الأسئلة بدل أن يكرر الإجابات، ويمنح الوعي الجمعي شجاعة الفهم بدل راحة الحنين، نؤمن بأن كل زمن يستحق أن يفهم في سياقه، وأن العدالة بين الأزمنة شرط للعدالة بين البشر.

هذا موقف ضد السكون، وضد تحويل "النوستالجيا" إلى بديل عن التفكير، وضد صناعة الأصنام مهما بدت جميلة، نحن مع الذاكرة حين تكون جسرًا، وضدها حين تتحول إلى قيد، ومع الماضي حين يكون خبرة، وضده حين يصبح سلطة، ومع الحاضر؛ لأنه الزمن الوحيد الذي ما زال قابلًا للحياة.

الأكثر قراءة

z