خالد بن سالم الغساني
لا زالت أصداء الاتفاقية الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان وجمهورية الهند تتردد وتحظى بنقاشٍ واسعٍ في الشارع العُماني، بعدما طُرحت في مجلس الشورى وجرى التباحث حول بنودها والهدف منها، ضمن نهج المجلس في دراسة الاتفاقيات ذات البعد الاقتصادي. ورغم الطابع المؤسسي لهذه المناقشات، فإنها لم تُنهِ الجدل الشعبي؛ بل تزامنت مع موجة آراء متباينة، خاصة وأن الاتفاقية تأتي في سياق اقتصادي حساس تشهد فيه البلاد تحوّلًا تدريجيًا نحو تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط.
جزءٌ كبيرٌ من المخاوف التي عبَّر عنها البعض لا يتعلق بالاتفاقية نفسها؛ بل يرتبط بواقع ملموس في السوق العُماني يتمثل في العدد الكبير للعمالة الهندية وانتشارها الواسع في قطاعات التجارة والخدمات والمقاولات. هذا الوجود الكثيف أوجد عبر الزمن انطباعًا لدى فئة من المجتمع بأنَّ أي اتفاقية اقتصادية جديدة مع الهند قد تفتح الباب أمام توسع أكبر للشركات الهندية وزيادة نفوذها في السوق المحلي. لذلك، تتخذ المخاوف بُعدًا اجتماعيًا أكثر منه اقتصاديًا؛ حيث يصبح الحديث عن الاتفاقية جزءًا من نقاش أوسع حول التوازن في سوق العمل وحماية الفرص المتاحة للمواطن، لا سيما في ظل شُح فرص التوظيف وزيادة أعداد المواطنين الباحثين عن عمل، دون ما يوحي بحلولٍ ناجعة لهذا الملف الوطني المُهم والمُقلق.
مع ذلك، فإنَّ الاطلاع على مضمون الاتفاقية وبنيتها الفعلية يُظهر أنها لا تنص على أي امتيازات خاصة لشركات دولة بعينها، ولا تمنح سلطات استثنائية أو إعفاءات تتجاوز القوانين العُمانية؛ فهي إطار اقتصادي يهدف إلى تسهيل الاستثمار المتبادل وتطوير التبادل التجاري، وفي الوقت نفسه تخضع- مثل غيرها من الاتفاقيات- للقوانين المحلية التي ثبُت أنها الأساس المشترك لتنظيم سوق العمل والتجارة. وبالتالي، فإن التخوف من سيطرة شركات معينة لا ينبع من الاتفاقية بحد ذاتها؛ بل من تجارب ومشاهدات سابقة تتعلق بممارسات في السوق يمكن معالجتها عبر تشريعات ورقابة أكثر صرامة.
ولكي تتحول هذه الاتفاقية إلى فرصة اقتصادية حقيقية لا إلى مصدر قلق، فإنَّ هناك مجموعة من الخطوات العملية التي يمكن أن تجعلها أكثر توازنًا وطمأنة للمواطن. من هذه الخطوات، تضمين الالتزامات الخاصة بالتأهيل ونقل المعرفة في العقود الاستثمارية، بحيث يكون لأي مشروع أجنبي قيمة مضافة واضحة للمواطن العُماني. فهذا الأسلوب أثبت نجاحه في دول أخرى؛ حيث ساهم في تحويل الاستثمارات الأجنبية إلى بيئة تدريب وتطوير للكوادر الوطنية بدل أن تكون مجرد توسُّع للعمالة الوافدة.
كما إن تعزيز الشفافية فيما يخص البيانات المتعلقة بالاستثمارات الأجنبية يُعد خطوة مهمة لرفع مستوى الثقة؛ إذ سيشعر المواطن براحة أكبر عندما تكون أمامه معلومات واضحة حول عدد الوظائف التي تُخلق، ونوعية الفرص المتاحة، ومدى الالتزام بنسب التعمين، وحجم الفائدة الاقتصادية الفعلية. وبذلك يصبح تقييم الاتفاقية قائمًا على حقائق قابلة للقياس لا على انطباعات أو مخاوف متوارثة.
ويمكن كذلك تطوير نظام تصنيف للشركات الأجنبية وفق درجة التزامها بالقوانين العُمانية، بما في ذلك تطبيق نسب التعمين، والامتثال للمعايير المهنية، وتقديم البيئة المناسبة للعاملين. ومن خلال هذا النظام، يمكن مكافأة الشركات المنضبطة بمنحها تسهيلات، وفرض قيود أو عقوبات على الشركات التي تتجاوز المعايير؛ سواء كانت هندية أو غيرها، وبذلك يصبح السوق أكثر عدلًا وتنظيمًا.
إن واقع الاقتصاد العُماني اليوم يتطلب الانفتاح وجذب الاستثمارات النوعية القادرة على توفير فرص عمل وتحريك عجلة التنمية، لكنه في المقابل يفرض ضرورة وضع أطر رقابية واضحة تمنع أي اختلالات يمكن أن تثير القلق في المجتمع. والاتفاقية الاقتصادية مع الهند- إذا ما خضعت لإدارة حكومية دقيقة ومتابعة تشريعية ورقابية فاعلة- ستكون رافدًا مهمًا للاقتصاد الوطني، دون أن تمس بحقوق المواطن أو فرصه في سوق العمل.
وبين صوت المجتمع الذي يُعبِّر عن مخاوفه المشروعة، والمشهد الاقتصادي الذي يتطلب مرونة في التعامل مع العالم، يبقى الحل في تحقيق التوازن لا في الانغلاق ولا في فتح الأبواب دون شروط. وما دامت أدوات الرقابة موجودة، وما دام التشريع قادرًا على ضبط مسار أي استثمار، فإن مثل هذه الاتفاقيات يؤمل منها أن تتحول من مصدر قلق إلى فرص تُبنى عليها خطوات اقتصادية أكبر وأكثر رسوخًا في المستقبل.
