د. محمد رضا طالب اللواتي
الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده؛ بل إنه الرحمة بذاتها، ولك الآن أن تتخيل أن سيارة تمتاز بجميع خصائص الحماية من تنبيهات مُتعددة ومكابح تعمل تلقائيًا وغير ذلك من الخصائص التي تمتاز بها السيارات الفارهة والباهظة الثمن، تقع في البحر من فوق جسر يربط بين مدينتين، فتخرج الأكياس الهوائية (Air bags) لتعمل على حماية جسدك من فرط الارتطام، إلّا إنها لا تستطيع إيقاف نزول السيارة أسفل البحر تدريجيا، فلقد بات الغرق مصيرها المحتوم كما يبدو.
الأمل في النجاة لا يزال متاحا!
الهاتف لا يزال مشحونا بالطاقة، ولكن الاتصال متعذر لطلب النجدة. كيس بالمأكولات المتنوعة موجود ولكن السائق والراكب لا يمتلكان الرغبة في التفكير في الأكل في تلك الساعة المهيبة. الأمواج المتلاطمة والتيار القوي يسحب السيارة نحو عمق المحيط.
لنقم الآن باستبدال السائق بك شخصيًا، والراكب بأحب الأشخاص إليك، هذا الاستبدال لكي يجعلك تعيش اللحظة الفارقة وربما الأخيرة في الحياة التي عادة لا أحد منَّا يفكر فيها، تُرى كيف ستكون؟
الهاتف يرن رنة وصول رسالة!
أليس هذا مذهلا، وتحاولان أنتما معًا لقراءتها فلعل فيها خبر نجاتكما من الموت المحتم.
لكن الرسالة تبدد كل أمل قد يكون باقيا!
إنها تقول: لم نستطع تحديد مكان السيارة، فإذا كنتما أحياء الرجاء الرد على هذه الرسالة لكي نعرف موقعكم من التيار بالضبط!
يا للهول! وهذا هو الماء يبدأ بالتسرب من الفتحات الدقيقة للسيارة التي يزيد سعرها عن 40 ألف ريال!
إنها ساعة الوداع فعلا!
ما كان متوقعاً على الإطلاق هذا اللون من الموت، في سيارة من غير المتوقع أن يقع الموت فيها، وبهذا النحو!
هُنا، القلب الذي ملأهُ الله بالأمل لا يعرف اليأس أبدًا، وإذا به يتعلق بشدة بالقوي العزيز، ذي الرحمة المطلقة، والذي لا يقف شيء أمام قدرته، وتُسارع الأشياء لتكون طوع إرادته!
الله الذي جعلناه آخر اهتماماتنا! خلف كل شيء كان ذكره بالنسبة لنا! حتى السيارة كانت تشغلنا عنه أكثر!
أتذكر حديثا لطيفًا للغاية عن الإمام جعفر بن محمد الصادق- من أئمة آل البيت- أنه سُئِلَ عن الله فقال لسائله: "يا أبا عبد اللّه، هل ركبت سفينةً قطّ"؟ قال: بلى. قال: "فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك"؟ قال: بلى. قال: "فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئًا من الأشياء قادرٌ على أن يخلّصك من ورطتك"؟ قال: بلى. قال الصّادق: "فذلك هو اللّه القادر على الإنجاء حين لا منجي، وعلى الإغاثة حين لا مُغيث".
ما أحسن أن نعمل على إعادة الله ونقل ذكره من الهامش إلى إيقاع حياتنا اليومي؟
لقد وعد الذاكرين له بالنجاة: "فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ" (الأنبياء: 88).
ولعل سبب خفاء لحظات موتنا علينا كان لإدخالنا في تجربة إثبات مقدراتنا على ذكرها.
المستكبرون والمفسدون ممن مسحوا ذكره تعالى من هوامشهم حياتهم بالنسبة لهم تلك اللحظات تكون عصيبة، فلقد استبدلوه بعَّزة الذات وقوة الأشياء المحيطة بهم من سيارة ومنزل فخم، لذلك يستهزئ الله بهم في لحظات الألم الخالد فيقول لهم: "ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ".
