انحياز راعي السلام

 

 

عوض المغني

 

شهدت بداية تسعينيات القرن الماضي أحداثًا كبرى هيأت الصعود للإمبراطورية الأمريكية بوجهها الحالي، على رأسها: انهيار المعسكر الشيوعي (الاتحاد السوفييتي)، وظهور العولمة والشبكة المعلوماتية الدولية (الإنترنت)، وهنا زادت شهية العم سام للاستحواذ على مقدرات العالم والتحكم به.

وفي التسعينيات المذكورة، خطت القضية الفلسطينية خطوات حسبناها دافعة للأمام للحصول على حقوق الفلسطينيين المسلوبة بتواطؤ دولي، حين جلس الأطراف الفلسطينية والصهيونية على طاولة واحدة برعاية أمريكية تمخضت عن توقيع اتفاقية أوسلو بالبيت الأبيض عام 1995.

والآن بعد أكثر من 30 عاماً من تلك الاتفاقية، لا يجد الفلسطيني أرضًا يقيم عليها دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، علما بأن الاتفاق وتفاهماته تنص على مدة لا تزيد عن 5 أعوام لإقامة الدولة المنشودة؛ فالراعي الأمريكي لم تسعفه الوعود العديدة ولا خارطة الطريق للوفاء بتعهداته، بسبب استسلامه الواضح والقديم لمجموعات الضغط الصهيونية الواقفة حجر عثرة في وجه أي تقدم لحل الدولتين بالإضافة إلى تناوب الحكومات المتطرفة في دولة الاحتلال، وهذا على الرغم من تناوب كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي لتولي مقاليد الحكم في الولايات المتحدة.

وهنا يمكن الجزم بالانحياز الأمريكي بشكل صارخ للاحتلال الإسرائيلي خاصة خلال العامين الماضيين- منذ السابع من أكتوبر- فالإدارة الأمريكية لم تقف بحيادية على أقل تقدير لتنفي عن نفسها صفة الانحياز، فقد تداعت منذ السابع من أكتوبر للوقوف في صف الاحتلال فقد انفقت حوالي 26 مليار دولار كمساعدات عسكرية مباشرة للجيش الإسرائيلي خلال شن عدوانه على غزة، كما استخدمت تلك الإدارة (ولا فرق بين إدارتي جو بايدن أو دونالد ترامب) حق النقض الفيتو في مجلس الأمن 7 مرات لإبطال مشروع قرار وقف فوري للحرب في القطاع.

وعبّرت الإدارتان الأمريكيتان عن تضامنهما مع دولة الاحتلال مرارًا وتكرارًا خلال العامين، بقيام مسؤوليها الكبار بزيارات متكررة إلى تل أبيب، طمأنة لاستمرار الدعم العسكري والسياسي، وفي مرات عديدة صرح سادة البيت الأبيض بفتح أبواب الجحيم على أهالي غزة إذا لم ترضخ حركات المقاومة تسليم المحتجزين لديها.

وكان من الواضح أن مبادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذات العشرين نقطة تعطي الأفضلية التفاوضية لدولة الاحتلال على الفصائل الفلسطينية من خلال إطلاق جميع المحتجزين دفعة واحدة وحرقها كورقة تفاوضية، وضبابية آليات تنفيذ الإعمار وحل الدولتين وهو ما كانت ترفضه إسرائيل مرارا، بالإضافة إلى الزيارات المتبادلة بينهما في الكونجرس والكنيست، وهذا الشيء الذي لم يحدث على الجهة الفلسطينية المقابلة.

واحتكار الولايات المتحدة لملف السلام في الشرق الأوسط لعقود لم يسفر عن شيء ملموس في المنطقة، فبعد سنوات الفوضى الخلاقة، ظهرت خريطة إسرائيل الكبرى التي تلتهم أجزاء من دول الجوار للكيان، وهي دليل آخر على تغول الكيان بفعل الانحياز الأمريكي

العديد من المبادرات ومشاريع السلام طرحت خلال العقود الفائتة لحل القضية الفلسطينية والوصول الى سلام عادل، بدءًا من قرار التقسيم عام 1948، ومشروع الملك فهد بن عبدالعزيز ذي النقاط الثمانية، وصولا إلى المبادرة العربية للسلام الشامل في قمة بيروت عام 2002، وكذلك المبادرات من الأطراف الدولية كالقمة العربية الصينية عام 2023 بالرياض وما تضمنته من مبادرة الرئيس الصيني، وكلها تقريبا لا تخرج عن سياق القرارات الدولية المعروفة 242 أو 191 وغيرها، كالدعوة لوقف الاستيطان غير الشرعي وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 67، والتأكيد على مركزية القضية الفلسطينية لإحلال السلام في المنطقة العربية.

 ومع كل ذلك يظل الراعي الأمريكي لعملية السلام مشددا قبضته السياسة والعسكرية على الجانب الفلسطيني (منزوع السلاح)، ومرخيا إياها في الوقت ذاته عن الجانب الإسرائيلي، وهو بذلك مطلق العنان لآلة الحرب الدموية على الأبرياء في كافة الجغرافيا الفلسطينية وما جاورها؛ حيث يستمر سقوط ضحايا مدنيين بالمئات بشكل يومي، بينما لا تلحظ أي أحداث في الجانب المدني للاحتلال، فقد توقفت مظاهرات عائلات الأسرى وانكفأ الداخل الإسرائيلي على نفسه، متفقاً بما يشبه الإجماع على عدم السماح بقيام دولة فلسطينية، ومكافأة الحكومة الحالية المتطرفة بالاستمرار بقيادة الدولة، وهو ما يعني عدم الالتفات إلى إنسانية الفلسطيني وتركه للعيش بسلام وكرامة!

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z