صالح بن سعيد الحمداني
يا نوفمبرُ… يا شهرًا يهبط على جبال عُمان كالغيم الماطر، ينعش القلوب بنسيمه، ويوقظ في الذاكرة ألف حكاية، يا شهرًا يفتتح بواباته وكأنه مهرجان ضوءٍ يمتد من ظفار حتى مسندم، ومن بحر العرب حتى رمال الشرقية، ليقول للعالم هنا عُمان… وطن لا يشبه إلا نفسه.
يأتي نوفمبر كلّ عام، لا كرقمٍ في التقويم، بل كنبضٍ في الصدور، وكذكرى تتجدد فيها روائح التاريخ وأصداء النهضة، فمنذ بزوغ فجر عام 1970، حين تولى السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- مقاليد الحكم، بدأ هذا الشهر يرتبط في الوجدان العُماني بملامح تحولٍ عظيم، وانطلاقة وطنية غيرت وجه البلاد.
كان الثامن عشر من نوفمبر، يوم ميلاد القائد الراحل، موعدًا لاحتفالٍ يليق بما أنجزه وبما أرسى دعائمه من قيم البناء والسلام والرقي، كان السلطان قابوس- رحمه الله- يقول "بناءُ الوطن أمانةٌ عزيزة في أعناقنا جميعًا، نحمله معًا ويجب أن ننهض به معًا"، وبهذه الكلمات، ومع النهج الحكيم الذي اتسم به، صارت عُمان نموذجًا للتنمية المتدرجة، والنهضة المتوازنة، والتخطيط البعيد النظر، وارتسمت تحت قيادته ملامح دولة عصرية، قادرة على الجمع بين أصالة التاريخ وروح الحداثة، وبين تراث الأجداد وابتكارات المستقبل، ولذلك ليس غريبًا أن يتحول نوفمبر إلى عيدٍ يفيض بالعاطفة والفخر لدى كل عُماني في الداخل والخارج، في هذا الشهر كانت القصائد تتفتح كما تتفتح أزهار الجبل الأخضر، وكانت المدن تتزين بألوان العلم، وتغدو الطرقات كأنها تختال فرحًا، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، تتردد أهازيج الوطن، ويعيش الناس فرحة الولاء والانتماء.
نوفمبر لم يكن شهرًا عاديًا؛ إنه كان- وما يزال- وسيظل شريانًا من الحب يجري في عروق الوطن، ومع بداية عام 2020م، في فجر يوم 11 يناير 2020م وإعلان تسليم الأمانة إلى حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- دخلت عُمان مرحلة جديدة من مراحل النهضة، تحمل روح الماضي وقوة الحاضر وطموح المستقبل، قيادة واعية، ورؤية متجددة، واستمرار لمسيرة الخير التي أرساها المؤسس الأول للنهضة الحديثة، وفي أول خطاب له بعد توليه الحكم قال جلالة السلطان المفدى- حفظه الله ورعاه: "سنمضي بعُمان إلى المكانة المرموقة التي أرادها لها الراحل العظيم، ونواصل بناء البلاد بعزمٍ أقوى وصبرٍ أكبر"، وكانت هذه الكلمات بمثابة وعدٍ صادقٍ لمسيرة تجددت عروقها، ونهضة تجسدت ملامحها في كل مجال.
تحت قيادته الحكيمة أصبحت عُمان أكثر حضورًا في الساحة الدولية، وأكثر قدرة على المنافسة إقليميًا وعالميًا؛ سواء في الاقتصاد أو الاستثمارات أو البنية الأساسية أو التحول الرقمي أو الاستدامة، ومن محطات هذه المرحلة المهمة جاء القرار التاريخي باعتماد العشرين من نوفمبر يومًا "لليوم الوطني"، في ارتباط مباشر بجذور الدولة البوسعيدية التي حكمت عُمان بتعاقب السلاطين منذ 281 عامًا، ووضعت لبنات الاستقرار والسيادة منذ قرون، وهذا التغيير لم يكن مجرد تعديلٍ تاريخي، وإنما تأكيد على أن عُمان دولة ضاربة في التاريخ، وأن نهضتها الحديثة امتداد طبيعي لنهج أئمتها وسلاطينها على مرّ العصور، عُمان اليوم ليست عُمان الأمس؛ إنها بلد يضع رؤيته في المستقبل بثقة كبيرة، ويمضي إليها بخطوات محسوبة، إنها وطن يقرأ التحولات العالمية بدقة، ويشتبك مع الاقتصاد العالمي بعقلية متوازنة، ويصنع لنفسه مكانة خاصة في عالمٍ يزداد تعقيدًا.
ومع إطلاق رؤية "عُمان 2040"، أصبحت البلاد تسير وفق خطط واضحة المعالم، تستهدف الإنسان أولًا، وتبني اقتصادًا متنوعًا، وتعزز الابتكار والمعرفة، وتدعم القطاعات الواعدة، إنها رؤية ليست شعارات؛ بل خطط عمل، ومشاريع كبرى، وقوانين متطورة، وإصلاحات مستمرة، لقد تحولت المدن العُمانية إلى مراكز حضارية نابضة بالحياة، وتحولت الأفكار إلى مشاريع، وتحول الشباب إلى شركاء فاعلين في التنمية، ولم تعد النهضة مجرد ذكرى، وإنما واقعًا نعيشه كل يوم، ونلمس أثره في كل زاوية من زوايا الوطن، وفي نوفمبر- الشهر الذي يحبّه العُمانيون حبًا لا حدود له- تتجدد الأفراح وتتجدد الهمم، يتذكر الناس تاريخهم المجيد، وينظرون إلى حاضرهم بثقة، ويستشرفون مستقبلهم بوعي وإرادة، ففي هذا الشهر يبدو الوطن أجمل، وتبدو الروح أكثر امتلاءً بالفخر، ويبدو الطريق إلى المستقبل أكثر وضوحًا.
إنَّ مسؤولية كل عُماني في هذه المرحلة أن يكون شريكًا في نهضة وطنه؛ فالأوطان تبنى بسواعد أبنائها، وتتقدم بوعيهم، وتزدهر بإخلاصهم، وتبقى عُمان كما كانت دائمًا، أرضًا تفتح ذراعيها للسلام، وتقدم للعالم نموذجًا مشرقًا في التعايش والاستقرار، هكذا يطلّ علينا نوفمبر كل عام؛ لا ليذكّرنا فقط بما مضى، ولكنه يطل ليقول لنا إن المستقبل أجمل، ما دمنا نحمل في قلوبنا حبّ هذا الوطن، ونضع في أعيننا رؤيته، وفي أيدينا عمله، إنها عُمان… عُمان نوفمبر… عُمان التي كلما مرّت الأعوام ازدادت شبابًا وتألقًا، وكلما أشرق اليوم الوطني ارتفعت معها دعواتنا:
اللهم احفظ عُمان وأهلها، وأدم عليها نعمة الأمن والرخاء، ووفق قائدها وسدد خطاه.
