د. صالح الفهدي
كان لافتًا وجود أطفالٍ هم في الحقيقة روَّادُ أعمالٍ صغار، وهم يتحدَّثون إلى الجمهور عن تجاربهم في إنشاء المشاريع، ولكن لم يكن ذلك مفاجئًا؛ إذ إنَّ أغلبهم كانَ من ولاية نزوى، وقد أتاح لي وجودي بينهم الاستماعَ إلى تجاربهم وقصصهم، وذلك في إطار فعالية نظَّمتها دائرة الشراكة وتنمية المجتمع بالمديرية العامة للتنمية الاجتماعية بمحافظة الداخلية.
الفكرةُ في حدِّ ذاتها رائعة: أن يتحدَّث صنَّاع محتوى إيجابي، أو نرى أطفالًا صغارًا وهم يتحدَّثون عن مشاريعهم التجارية. وإذ قلتُ بأنَّ أغلب الأطفال الذين تحدثوا عن مشاريعهم من نزوى وأن ذلك لم يكن مفاجئًا لسببِ ما عُرف عليه أهُل نزوى من مزاولة التجارة بأنفسهم، لهذا ينشأ أبنائهم على عادات آبائهم وأجدادهم، وقد وجدوا أن التجارة مصدرَ رزقٍ وفيرٍ، كما أنها توفِّر حريَّةً ماليةً وسيعة.
طُلبَ مني أن ألقي كلمةً تحدَّثتُ فيها عن السعادة التي غمرتني وأنا أستمع لأعمارٍ صغيرةٍ استطاعت أن تحسِّن الوضع المعيشي لأُسرها، وهي لم تبلغ بعد سنَّ الحلم، وتمنيت أن يجول هؤلاء الأطفال أرجاء السلطنة ليتحدثوا عن تجاربهم وقصصهم كي يُلهموا الآخرين بما يحملونه بين جوانحهم من طاقة إيجابية، ترى البياض الواسع المليء بالفرص.
بعد نهاية الفعالية جاءني أحد هؤلاء الأطفال أصحاب المشاريع فقال لي: لقد تحدَّثتَ بأنَّ على كل صاحب موهبة أن يستثمر في موهبته، فلماذا لا يركِّز التعليم على ذلك؟ واستطرد سائلًا: لماذا لا نجد موادًا دراسية تهتمُّ بتنمية المواهب والقدرات؟ لقد فتَحَتْ تساؤلاته ما كنتُ أكرِّره من أن التعليم يجب أن يُلامس الواقع، ويواكب مقتضياته، ويتوافق مع متغيِّراته، ولا يجب أن يظل رهينًا لنظام جامد دون تغيير عقودًا طويلة.
إنَّ مسألة تمكين الشباب لا تبدأ في مرحلة متأخرة؛ بل هي مما يعزَّز في مراحل مبكرةٍ من التعليم، وذلك عبر الاعتناء بالمواهب والقدرات وتحفيز التفكير، والإبداع، وتحمل المسؤولية، ولا جدال في أن المدرسة هي التي تصقلُ المواهب، وتعزز الطاقات والمهارات، وتسهم في تشكيل التوجُّه، والميول.
وغاية التعليم ليس أن يُحشى ذهنُ الطالب بالمعلومات حشوًا، فتظل في ذهنه حبيسة لا يعرف كيف يترجمها إلى الواقع، فالكثير من البشر يملكون المعرفة النظرية ويتحدثون بها حتى تقول لو أنَّ هؤلاء قرروا فتح مشاريع لنجحوا فيها نجاحًا باهرًا، ولكن ذلك ليس صحيحًا، إنَّما من يمارسُ التجربة في الواقع هو أدرى به، ولذلك يقول المثل الشعبي "اسأل مجرِّب ولا تسأل طبيب" والمقصد ترجيح صاحبُ التجربة وليس التقليل من شأنِ الطبيب إن نظرنا إلى الشقِّ الإيجابي في المثل.
قُلتُ في كلمتي وأنا أمسكُ بيدي ورقةً: "أن الشهادة ورقة تدلُّ على أنك متعلم، ولا تدلُّ على أنك فاهم" فالفهم الحقيقي يظهرُ في الاحتكاك بالواقع، وما لم يمزج التعليم النظري بالعملي، وما لم يُعتنى بالمهارات الحياتية والريادية مثل مهارة التواصل، والقيادة، واتخاذ القرار، وحل المشكلات، وما لم يُدرَّب الطلاب على مهارات الذكاء العاطفي فإن التعليم لن يحقِّق غاياته في تشكيل شخصية تستطيع أن تحوِّل المعلومة إلى معرفة فيما يُعرف بـ"اقتصاد المعرفة".
ذات مرَّة تحدَّثتُ إلى جهةٍ أطلقت مسابقة لإجراء بحوث زراعية، فقلتُ لهم: لِمَ بحوث؟ لِماذا لا تكون الأعمال المقدَّمة مشاريع حقيقية على أرض الواقع؟ مثل أن تكون المشاريع زراعية حتى وإن كانت تجارب زراعية لا تتعدَّى مساحة مترٍ مربِّع واحد، فذلك ما يُلهم المشاركين أفكارًا ذات اتصالٍ بالواقع.
الطلَّاب حين يدمجون في أعمال ترتبط بواقع المجتمع وسوق العمل، تتولَّدُ لهم أفكار خلَّاقة، ويكتشفون مهارات مخفيَّة فيهم، بل واتجاهات وميول مختلفة في مستقبلهم المهني. وفي هذا السياق، تدرسُ ابنتي في جامعة مسقط؛ حيث يقتضي نظام الجامعة أن يقضي الطلبة السنة الثالثة في تدريبٍ عمليٍّ بتنسيقٍ مع الجامعة، وهي فكرةٌ تتوافق مع طرحي الدائم حول إدماج المُتعلِّم في سوق العمل، حتى يستلهم الأفكار، ويكتشف ذاته، ويحدِّد نقاط القوة والضعف في مهاراته الشخصية.
في عالم اليوم يجب أن ينطلق التمكين الحقيقي من تحرير العقول، وتوجيهها نحو التفكير النقدي والإبداعي؛ فليس الهدف أن يحفظ الطالب المعلومة، بل أن يفكر فيها ويعيد إنتاجها. ويتحقق ذلك حين تُربط المناهج بحياة الطالب اليومية، فيشعر أن ما يتعلمه له أثر في بيئته ومجتمعه، وأن المعرفة ليست غاية في ذاتها؛ بل وسيلة للبناء.
ولكي تعزَّز قيم الهوية والانتماء الوطني، فإنَّ من المُهم أن يُتاح للطلبة فرص المشاركة في الأنشطة التطوعية والمبادرات الوطنية، وأن يُربط التعليم بخدمة المجتمع، عبر مشاريع بيئية أو ثقافية أو اجتماعية، ومحصَّلة ذلك أنَّه حين يعرف الطلبة تاريخهم ويعتزون بتراثهم، يصبحون أكثر استعدادًا لخدمة وطنهم، وتحمُّلًا للمسؤوليات والواجبات بهمَّةٍ عاليةٍ، وروح وثَّابة.
الشاهدُ أن التمكين هو عملية تأسيسية تنطلقُ في مراحل مبكرة، وفق سياقات تعليمية وعمليَّة تأخذُ في اعتبارها تعزيز القدرات الشخصية، واكتشاف المواهب، وتنمية المهارات. هذه العملية ستضمن نشوء جيلٍ قادرٍ على صنع القرار، وتحديد الاتجاه، وإنتاج المعرفة.
