إعادة ترتيب الأولويات الوطنية

حاتم الطائي

◄ نحتاج لوقفة نقدية كاشفة للتحديات ومُصححة للمسارات الراهنة

◄ أولوياتنا الآن تتمثل في دعم الأُسر المحتاجة وتوفير الوظائف وتنمية القطاع الخاص

◄ ضرورة تعزيز أدوار الإعلام وتمكينه من أداء مسؤولياته

انفطرت قلوب العُمانيين بعد الحادث المأساوي الذي ذهبت ضحيته أسرة كاملة مكونة من ستة أفراد، في جُنح الليل، تحوَّل المنزل الذي يفترض أن تدب فيه الحياة والحركة والسعادة، إلى قبر ابتلع أهله، وُئدوا أحياءً نتيجة استنشاق غاز سام، فبكت عُمان من أقصاها لأقصاها، وبينما نحن في هذه الحالة من الحُزن والأسى على هذا الفقدان الأليم، وتلك الكارثة التي لا نُبالغ عندما نصفها بأنها مؤلمة على المستوى الوطني، وليس الفردي، ما يستدعي فورًا التوقف عند أبعاد هذه الطامة الإنسانية، وأهمها إعادة ترتيب الأولويات الوطنية، والنظر بإمعان في الإجراءات التي اتُخذت في فترات سابقة، وألقت بظلالها القاتمة على معيشة الكثير من المواطنين.

وما تحقق من تطورات وإنجازات خلال السنوات القليلة الماضية، تدفعنا في الوقت نفسه إلى تبنّي وقفة نقدية كاشفة للتحديات التي أفرزتها سنوات ترشيد الإنفاق العام، وتحديدًا "خطة التوازن المالي"، التي بلا شك نجحت في تحقيق أهداف عدة، في مقدمتها خفض الدين العام وتقليص عجز الميزانية واستعادة الجدارة الائتمانية وتحقيق أداء صاعد في العديد من المؤشرات، خاصة المؤشرات الجاذبة للاستثمار الأجنبي، الذي صعد هو الآخر بمعدلات كبيرة وأسهم في تنفيذ مشاريع استثمارية نوعية. لكن في المقابل، تسببت هذه التطورات في اختلالات اقتصادية واجتماعية، منها ضعف القطاع الخاص نتيجة لخفض الإنفاق الحكومي على المشاريع، وزيادة أسعار الخدمات العامة من كهرباء ومياه بسبب الخفض الذي طال مخصصات الدعم، علاوة على خفض دعم الوقود. هذه الاختلالات تسببت كذلك في انتشار ظاهرة تسريح المواطنين من أعمالهم في القطاع الخاص، وإغلاق الكثير من الأنشطة التجارية، التي لم تصمد في وجه التحديات وتحديدًا الأزمة المزدوجة (جائحة كوفيد-19 والضغوط الاقتصادية)، مع الأخذ في عين الاعتبار الازدياد الكبير في أعداد الباحثين عن عمل، ومن ثم زيادة الضغوط المعيشية على رب الأسرة؛ حيث إن الكثير من الآباء ما يزالون ينفقون على أبنائهم رغم تجاوزهم سن الثلاثين؛ بل والأربعين في أحيان كثيرة.

الوقفة النقدية التي نطالب بها الحكومة ومؤسسات الدولة كاملة، تتمثل في ضرورة إعادة ترتيب الأولويات، ولقد أصبح مؤكدًا أن أولوياتنا الآن تتمثل في الإسراع في دعم الأُسر المحتاجة، وتوفير الوظائف، وضمان الحماية الاجتماعية والأمن الوظيفي لكل مواطن يعيش على أرض وطنه. ولا أعتقد أن هناك وقتًا لإعادة ترتيب الأولويات أفضل من اللحظة الراهنة، اللحظة التي يجب أن نرتكز عليها ونبني عليها المستقبل الآمن لكل مواطن. فخلال شهر وبضعة أيام نبدأ مرحلة وطنية بالغة الأهمية، مع بدء تنفيذ الخطة الخمسية الحادية عشرة، والتي تمثل المرحلة الثانية من 4 مراحل تُشكِّل الرؤية الطموحة والواعدة "عُمان 2040". 

إعادة النظر في الأولويات الوطنية تتطلب إجراءات عاجلة بعيدة عن تشكيل اللجان والدراسات التي تُطيل أمد الأزمات، وهذه الإجراءات يمكن إيجازها في:

أولًا: إعادة هيكلة الدعم الحكومي ومنظومة الحماية الاجتماعية؛ إذ إن هذه المنظومة بوضعها القائم حاليًا ربما توفر المساواة بين المواطنين، لكنها لا تحقق العدالة الاجتماعية، تلك العدالة التي يجب أن تأخذ في الحسبان الفوارق بين المواطنين، فكيف تسمح هذه المنظومة لشخص ميسور الحال أو مليونير ثري أن يستفيد من الدعم الحكومي؛ سواء في تكلفة الخدمات العامة من كهرباء ومياه، أو منفعة مثل منفعة الطفولة لأبنائه، أو منفعة كبار السن؟! كيف يستوي من يحصل على راتب يتجاوز الألفين ريال مع مواطن آخر راتبه أصيب بالشلل عند مستوى 325 ريالًا!

الأرقام الحكومية تقول إن منظومة الحماية الاجتماعية تلتهم 577 مليون ريال من الميزانية العامة للدولة، لكن مع الأسف هذه الملايين الضخمة لا تذهب لمستحقيها بالكامل، وهذا خلل بيّن وواضح. قد نتفهم الرغبة في المساواة بين جميع المواطنين، لكن في حقيقة الأمر هذه نظرة مثالية طوباوية للغاية، فالفقير أولى بالدعم من الغني، والمُعسر أحق من الميسور في الحصول على خدمات عامة أقل تكلفة. والحقيقة أن إعادة هيكلة الدعم تعني أن المُستحِق سيحصل على المبلغ المعقول، وبدلًا من استلام 100 ريال- مثلًا- سيستلم 200 ريال وربما 300 ريال، عندئذٍ سيتحقق له الأمان الاجتماعي.

ثانيًا: اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات من أجل تحفيز القطاع الخاص على النمو؛ خاصةً وأن هذا القطاع ينكمش عامًا تلو الآخر، ومن ثم لم يعد قادرًا على التوظيف؛ بل أصبح حتى لم يعد قادرًا على الاستمرار، وما حالات تسريح المواطنين من أعمالهم إلّا انعكاس للوهن الذي يُعاني منه القطاع الخاص. وما يزيد من حجم التحديات، أن قرارات حكومية غير مدروسة بعناية تُفاقم أوضاع هذا القطاع، فتارة تُفرض قيود، وتارة تزداد رسوم الخدمات والضرائب. وخير دليل على ذلك أوضاع الكثير من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة- التي تمثل العمود الفقري لأي قطاع خاص- التي تئن من عدم استطاعتها الاستمرار في عملها، واضطرار الكثير من أصحاب الأعمال لغلق النشاط التجاري وإشهار الإفلاس، ناهيك عن الملاحقات القضائية وغيرها!

لذا لم تعد ترفًا المطالبة باستراتيجية ناجعة لبناء قطاع خاص وطني قادر على المبادرة والحراك الإيجابي والتوظيف، وهذا ما تنُص عليه رؤية "عُمان 2040".

الحقيقة الماثلة في كل تجارب النمو الاقتصادي حول العالم، أن غياب الإصلاح الاقتصادي الشامل هو السبب الرئيس لأي كساد، وأي إصلاح مُجزأ لن يُجدي نفعًا ولن يحقق الأهداف المنشودة؛ بل ربما يتسبب في تضارب القرارات وتداخل الصلاحيات وتقاطع الاختصاصات بين الجهات.

ثالثًا: توسيع صلاحيات مجلس عُمان (الدولة والشورى)، خاصة فيما يتعلق بتحديث منظومة القوانين، ترجمة للتوجيهات السامية في هذا الصدد. والآن نحن في أمسّ الحاجة لتحديث القوانين المتعلقة بالحماية الاجتماعية والقوانين المُنظِّمة لعمل القطاع الخاص، لا سيما وأن وطننا يزخر بكفاءات على أعلى مستوى، قادرة على بلورة رؤية تشريعية وقانونية تعالج الاختلالات، وتردم الفجوات.

رابعًا: تعزيز أدوار المجتمع المدني والمسؤولية الاجتماعية، وهنا أتحدث أدوار الجمعيات الخيرية، وضرورة إنشاء جمعيات تخصصية مثل "جمعية الغارمين"، وكذلك التوسع في العمل النقابي، وتأسيس نقابات عمالية والجمعيات المهنية، واشتراط أن يكون كل موظف تابع لنقابة عمالية أو جمعية مهنية، للدفاع عن مُنتسبيها والإسهام في توفير الأمان الوظيفي والاجتماعي لهم، وهناك تجارب عربية وغير عربية رائدة يمكن البناء عليها وتطويرها بما يتلاءم مع مجتمعنا.

الواقع الآن يُشير إلى أن منظمات المجتمع المدني في حالة أشبه بـ"التهميش"، فالجمعيات الأهلية محدودة الأثر بسبب القوانين واللوائح التنفيذية ذات الصلة، وغير قادرة على مشاركة الحكومة في تخفيف العبء، ويكفي أن نعلم حجم الإجراءات البيروقراطية التي تفرضها وزارة التنمية الاجتماعية وتسبب في عرقلة أن نهوض لهذا القطاع الحيوي والمُهم. والحقيقة أن وزارة التنمية الاجتماعية يجب أن تكون مُلزمة بوضع خطة واضحة المعالم للقضاء على الفقر في بلادنا، عبر برامج بنَّاءة في ترقية الأسر بالتعليم والتدريب والعمل، وتحويلها إلى أُسر مُنتجة ترتقي بها إلى الطبقة الوسطى، وقد نجحت دول كثيرة في ذلك، وعلى رأسها الصين التي استطاعت أن تنتشل أكثر من 50 مليون مواطن من دائرة الفقر المُدقع في أقل من 10 سنوات.

خامسًا: تعزيز دور الإعلام، من خلال بناء نموذج إعلامي قادر على التعاطي مع التحديات والمواقف الصعبة، وتبني رؤية إعلامية أكثر ملامسة لواقع وحال المواطن؛ فالإعلام التنموي لم يعد مناسبًا لطبيعة الأحوال التي يمر بها العالم، وقد بات من الضروري أن يكون الإعلام- الرسمي والخاص- صوتَ المواطن بحقٍ، من خلال تفعيل أدوار المتحدث الإعلامي، وتعيين متحدث رسمي باسم الحكومة كاملة، وليس فقط باسم كل جهة حكومية للحد من الشائعات والتفاعل مع القضايا المجتمعية، بجانب التوسع في البرامج والتغطيات الجماهيرية، ودعم المؤسسات الإعلامية وتمكينها من أداء أدوارها دون أن يكون انعدام التمويل سببًا في أن تختفي وسائل الإعلام عن الساحة.

ويبقى القول.. إنَّ إعادة ترتيب الأولويات سيساعدنا على تحقيق مُستهدفات رؤية "عُمان 2040"، كما إن التحفيز الحكومي للقطاع الخاص أمر لا غنى عنه؛ لضمان خلق بيئة اقتصادية إيجابية ومن ثم تحقيق النمو، وتوفير الوظائف وضمان الأمان الوظيفي الحقيقي، عندئذٍ تنعم عُمان بالرخاء والازدهار الذي ينشده كل مواطن ومواطِنة.

الأكثر قراءة

z