حين تصبح المؤسسة حاضنة للأحلام

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

في كل مؤسسة قصتان تسيران جنبًا إلى جنب: قصة موظف يدخلها محمّلًا بأحلامه، وقصة مؤسسة تختبر كل يوم قدرتها على أن تكون حضنًا لهذه الأحلام أو قبرًا لها؛ فالمكاتب ليست جدرانًا صامتة، بل فضاءات إما أن تنبض بالحافز والتقدير فتُبقي الطموح حيًّا، أو تخنقه تحت ثقل الروتين وصمت التجاهل.

ومن هنا تبدأ الحكاية الحقيقية؛ فالمؤسسة التي تُنصت إلى موظفيها وتمنحهم مساحةً للتجربة، تتحول إلى بيتٍ مفتوح للنمو والإبداع. أما حين تُختزل الوظيفة في توقيع حضورٍ وانصراف، وتُغلق الأبواب أمام المبادرات، فإنَّ الحافز يذبل شيئًا فشيئًا. عندها ينطفئ الطموح، ويتحول من شعلةٍ مضيئة إلى عبءٍ داخلي ينهك صاحبه، وتغدو المؤسسة من حضنٍ للأحلام إلى سجنٍ لها.

ولأنَّ القيادة هي القلب النابض لأي مؤسسة، فهي التي تحدد اتجاهها؛ فإما أن تزرع الثقة في نفوس الموظفين وتمنحهم الشجاعة لإطلاق أفكارهم، أو تنشر الخوف والجمود فتذبل المواهب وتنكمش الطاقات. فالقائد الذي يفتح باب الحوار ويحتفي بالمبادرات مهما بدت صغيرة، يحوّل مكتبه إلى منارة إلهام. أما ذاك الذي يرى في الطموح تهديدًا لسلطته، فإنِّه يحوّل المؤسسة إلى مساحةٍ صامتة تختفي فيها الأحلام خلف ستار الرتابة.

وما بين القيادة والموظف يقف المجتمع شاهدًا على النتيجة. فحين تكون المؤسسة حاضنةً للأحلام، ينعكس ذلك مباشرةً على مستوى الخدمة؛ فالموظف الذي يلقى التقدير داخليًا يقدّمه خارجيًا مضاعفًا. إنه لا يكتفي بأداء واجبه، بل يضيف لمسته الخاصة التي تجعل الخدمة أكثر إنسانية وسلاسة. أما حين يشعر أن جهده غير مرئي، فإنه يتعامل مع المراجع بروحٍ مثقلة، فتتسرّب السلبية إلى قلب المواطن وتذبل ثقته بالمؤسسة.

ولأن الطموح ليس رفاهيةً عابرة؛ بل حاجة إنسانية تماثل حاجتنا إلى الأمان والاستقرار، فإن المؤسسة التي تُشبع هذه الحاجة بالتقدير والتحفيز تُبقي الموظف حيّ القلب، ممتلئًا بالشغف. أما حين يُهمل هذا الجانب، فإن الإحباط يتسلل بصمت، ويصبح الحضور إلى المكتب مجرد عادةٍ خاوية لا تحمل أي معنى.

ومن هنا تبرز أهمية السياسات الواضحة التي تمنح الطموح حقه: تدريبٌ مستمر يفتح آفاقًا جديدة، وتحفيزٌ عادل يربط الجهد بالإنجاز، وعدالةٌ في توزيع الفرص تُعيد الثقة بين الأفراد. كما إن رسم مساراتٍ مهنية واضحة يضمن للحلم طريقًا ملموسًا، بدل أن يظل معلّقًا في فراغ الأمنيات. وعندما يشعر الموظف أن مؤسسته تراهن على طاقاته، يردّ بعطاءٍ أعمق، ووفاءٍ أكبر، وإبداعٍ لا يعرف حدودًا.

ولأن الطموح الفردي يرتبط بمصير الوطن كله، فقد أكدت رؤية "عُمان 2040" أن الإنسان هو الثروة الأغلى، وأن الاستثمار في طاقاته هو الطريق الأقصر إلى مستقبلٍ مزدهر. فالمؤسسة التي تحتضن أحلام موظفيها لا ترفع كفاءتها الداخلية فحسب؛ بل تُسهم أيضًا في بناء وطنٍ يزدهر بالمعرفة والإبداع. والموظف الذي يجد بيئةَ عملٍ داعمة يصبح شريكًا مباشرًا في تحويل الرؤية من كلماتٍ على ورق إلى واقعٍ حيّ يلمسه المجتمع.

ولعل الأمثلة أصدق من أي تنظير؛ فهناك مؤسساتٌ آمنت بقدرات موظفيها، ففتحت لهم الباب لتجربة أفكار جديدة، ومنحتهم الثقة والدعم. فجاءت النتيجة مشاريع ناجحة، وخدمات أكثر جودة، وولاء وظيفي لا يُقدَّر بثمن. وفي المقابل، كم من فكرة لامعة وُئدت في مهدها بالتجاهل أو البيروقراطية، فضاعت معها فرصة تطوير، وخسر الموظف والمؤسسة والمجتمع جميعًا.

وفي نهاية المطاف، تبقى المؤسسة التي تحتضن أحلام موظفيها أقوى من أي خطة أو هيكل تنظيمي؛ لأنها تبني طاقة بشرية لا تنضب؛ فالموظف الذي يجد في عمله مساحة للنمو والإبداع يتحول إلى شريكٍ حقيقي في صناعة مستقبل الوطن. وهكذا، فإن المؤسسات التي تتحول إلى حضنٍ للأحلام، هي التي تزرع الثقة في الناس وتفتح أمامهم دروبًا أوسع نحو تنمية أكثر إشراقًا وإنسانية.

الأكثر قراءة