الطليعة الشحرية
حين تدخل الجريمة غرفة المَرَايا، لا تختفي؛ بل تفقد شكلها الحقيقي. تنعكس، تتشظّى، وتُعاد صياغتها بزوايا لغوية تجعلها أقل حدّة، وأكثر قبولًا للنظر. في هذه الغرفة، لا يُحاكَم العنف؛ بل يُؤوَّل، ولا يُسمّى باسمه؛ بل يُقدَّم بوصفه "تعقيدًا إنسانيًا". الأدب هنا ليس نافذة؛ بل مرآة مضلِّلة، تُعيد للسلطة صورتها التي تحبّ، وتكسر صورة الضحية حتى تتلاشى. وحين تمتلك النخبة مفاتيح غرفة المرايا، تمنح بعض الجرائم صفة الاستثناء، لا لأنها مختلفة؛ بل لأنها تنتمي إلى من يملكون حق الانعكاس. الخطر، إذن، ليس في الجريمة وحدها؛ بل في الغرفة التي تحوّلها من فعل مدان إلى مشهد جميل، ومن مسؤولية أخلاقية إلى سرد قابل للإعجاب.
في قضايا كبرى مثل قضية جيفري إبستين، لا تكون الصور مجرد أدلة جنائية؛ بل إشارات إلى طريقة اشتغال السلطة حين تُمسك باللغة؛ فالمشهد لا يتوقف عند شبكة استغلال قاصرات؛ بل يمتد إلى الكيفية التي يُعاد بها تمثيل هذا العنف داخل خطاب ثقافي "راقٍ" يخفف حدته، ويؤجل إدانته، ويحوّله من فعل يستوجب المحاسبة إلى "قصة معقّدة" قابلة للتأويل. هنا، لا تعمل الثقافة كضمير؛ بل كدرعٍ، وحين يدخل الأدب إلى هذه المنطقة، لا بوصفه نقدًا؛ بل بوصفه زخرفة، تتحول الجريمة إلى نص، والضحية إلى هامش.
تظهر "لوليتا" في هذا السياق بوصفها المثال الأوضح على كيف يُختطف الأدب من وظيفته الأخلاقية. الرواية التي كتبها الروائي الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف لتفكيك عقل المعتدي، جرى اقتطاعها من سياقها وتحويلها إلى رمز مُلتبس يخلط بين الطفولة والرغبة. هذا التحريف لا يُبرِّر الجريمة صراحةً، لكنه يفعل ما هو أخطر: يُعيد توصيفها لغويًا. العنف يصبح "التباسًا"، والاستغلال "علاقة إشكالية"، والضحية استعارة صامتة. وحين تتغير اللغة، يتغير الحكم؛ فالجريمة التي تُقدَّم بوصفها معضلة فكرية تُناقَش، لا جريمة تُدان.
هنا تتكشّف إحدى أخطر آليات السلطة النخبوية "الطبقية الأخلاقية". وفي هذا المنطق، لا يُعامَل الجميع أمام الفعل الأخلاقي على قدم المساواة. فهناك "مجرم عادي" يُدان ويُعاقَب بلا سرديات مرافقة، و"مجرم استثنائي" يُفهم ويُحلَّل ويُعاد تأطيره ثقافيًا.
الجريمة ذاتها، حين تصدر عن فرد من العامة، تُقرأ بوصفها فعلًا مكتمل الإدانة، أما حين تصدر عن فرد من النخبة، تُنزَع عنها مادّيتها وتُعاد كتابتها كسرد: تجربة، هوس، مأزق إنساني، بهذا التحويل، يُنقل الفعل من مجال الأخلاق إلى مجال السرد، ومن القانون إلى الثقافة، فتُعلَّق المحاسبة باسم الفَهم. لا تُبرّئ هذه الطبقية الجريمة، لكنها تحمي النظام الذي يسمح بوقوعها دون مساءلة، وتمنح السلطة حقًا حصريًا في تعريف الانحراف وتحديد من يُدان ومن يُناقَش.
هذا الاستثناء ليس عارضًا؛ بل يخدم حاجة نفسية عميقة لدى الذات السلطوية. فالسلطة لا تحتاج التبرير لتخفيف الذنب؛ إذ نادرًا ما تشعر بالذنب، لكنها تحتاجه لحماية صورتها عن نفسها. الذات التي ترى نفسها ذكية واستثنائية لا تحتمل أن ترى فعلها عاريًا. الأدب والسرد يقدّمان لها لغة بديلة تُعيد بها كتابة القصة، بحيث يبقى الفاعل في المركز حتى وهو متهم. لا يقول "أنا مجرم"؛ بل "أنا حالة مُعقّدة". وهكذا، يتحول السرد إلى درع نفسي يقي الذات من الاعتراف.
ثم ينتقل هذا التبرير من الداخل إلى المجال العام. تُستدعى الثقافة لإرباك الإدانة، ويُعاد تقديم الجريمة بوصفها مسألة تأويل لا مسألة عدالة. هنا تتجلى بوضوح أفكار الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو حول الخطاب بوصفه أداة سلطة: اللغة لا تصف الواقع فقط؛ بل تعيد إنتاجه، وتحدد ما يمكن مساءلته وما يمكن تأجيله. وحين تدخل الجريمة فضاء التأويل، تخرج- ولو مؤقتًا- من فضاء المحاسبة.
السُلطة لا تصبح خطِرة حين تُخطئ؛ بل حين تتعلّم كيف تُخطئ بلا شعور. فبين السلطة والسيكوباثية (انعدام التعاطف والندم) شعرة دقيقة، لا تُقاس بالنيّات؛ بل بالأنظمة التي تكافئ البرودة، وتحمي التلاعب، وتعيد تعريف غياب التعاطف بوصفه كفاءة إدارية. في هذا المناخ، لا يُنظر إلى الإنسان كغاية؛ بل كحالة تُدار، ولا يُعدّ نزع الإنسانية انحرافًا أخلاقيًا؛ بل إجراءً ضروريًا باسم النظام أو المصلحة أو التعقيد.
هنا يُقدَّم العنف بلغة مثقفة تهذّبه بدل أن تُدينه، وتحوّله من فعل صادم إلى نتيجة عقلانية "لا بُدّ منها". الأخطر أن هذه اللغة لا تفرض نفسها بالقوة؛ بل تُعلَّم، وتُكافَأ، ويُعاد إنتاجها حتى يصبح إيذاء الآخرين مهارة مهنية ما دامت تُمارَس بهدوء ومن دون فوضى. في هذا السياق، لا تُنتج السلطة سيكوباثيين أفرادًا فقط؛ بل تُؤسّس سيكوباثية سُلطوية كاملة، تُدار بالكلمات قبل الأفعال. ومن هنا، يصبح السؤال التالي حتميًا: كيف تحمي الذات السلطوية نفسها نفسيًا من رؤية هذا التحوّل، وكيف يستخدم السرد لتبرير ما لا تريد الاعتراف به؟
المشكلة، في النهاية، ليست في الأدب؛ بل في القراءة التي تختطفه، النصوص لا تُبرّر الجرائم؛ القراءة السلطوية تفعل. ومقاومة هذا المسار لا تكون برفض الثقافة؛ بل باستعادتها إلى وظيفتها الأولى: تسمية العنف باسمه، وإعادة الإنسان- لا السرد- إلى مركز المشهد. فحين تتحول الجريمة إلى نص، لا تختفي؛ بل تُؤجَّل. والخطر الحقيقي ليس في الجريمة وحدها؛ بل في اللغة التي تجعلها قابلة للتعايش.
المساءلة هنا لا تطال النص الأدبي؛ بل السلطة التي تختبئ خلفه، وتحوّل القراءة من فعل فهم إلى أداة حماية، ومن الأدب إلى قناع أخلاقي ومن هنا، لا تعود مسؤولية المثقف في إنتاج المعنى؛ بل في مقاومة اللغة حين تتحول إلى ملجأ للسلطة، وفي رفض لعب دور المفسِّر الذي يجمّل القسوة بدل أن يسمّيها باسمها، لأنَّ أخطر أشكال التواطؤ ليست الصمت؛ بل البلاغة التي تؤجّل الاعتراف.
